المكيدة ضد عباس

وكان قبل ذلك احضر قوما من الأمراء واستحلفهم انهم يخونونه ولا يخامرون عليه، واحضر جماعه من مقدمي العرب من درماء وزريق وجذام وسنبس وطلحه وجعفر ولواته واستحلفهم بالمصحف والطلاق على مثل ذلك فما راعنا وأنا عنده بكره الجمعة، إلا والناس قد لبسوا السلاح وزحفوا إلينا ورؤوسهم الأمراء الذين أستحلفهم بالأمس، فأمر بسد دوابه فشدت وأوقفت على باب داره، فكانت بيننا وبين المصرين كالسد لا يصلون إلينا لا زدحام الدواب دوننا. فخرج إليهم غلامه عنتر الكبير كان أشار عليه بذلك الرأي وهو زمامهم، صاح عليهم وشتمهم وقال روحوا إلى بيوتكم فسيبوا الدواب ومضى الركابية والمكارية والجمالون، وبقيت الدواب مهملة ووقع فيها النهب. فقال لي العباس اخرج احضر الأتراك وهم عند باب النصر والكتاب ينفقون فيهم. فلما جئتهم واستدعيتهم ركبوا كلهم، وهم في ثماني مائه فارس وخرجوا من القاهرة منهزمين من القتال، وركب المماليك وهم أكثر من الأتراك وخرجوا أيضاً من باب النصر، ورجعت إليه عرفته ثم اشتعلت بإخراج أهلي الذي كان حملهم إلى داره فأخرجتهم واخرجت حرم عباس. فلما خلت الطريق ونهبت تلك الدواب بأجمعها وصل المصريون إلينا فأخرجونا ونحن في قله وهم في خلق كثير. فلما خرجنا من باب النصر وصلوا إلى الأبواب أغلقوها وعادوا إلى دروبنا نهبونا، فأخذوا من قاعة داري أربعين غراره جمالية مخالطة فيها من الفضة والذهب والكسوات شيء كثير. وأخذوا من أصطبلي ستة وثلاثين حصاناً وبغله سروجيه بسروجها وعدتها كاملة وخمسه وعشرين جملاً، وأخذوا من إقطاعي من كوم أشفين مائتي رأس بقر للنشابين ألف شيه واهراء غلة. ولما سرنا عن باب النصر تجمعت قبائل العرب الذين استحلفهم وقاتلونا من يوم الجمعه وضحى نهار إلى يوم الخميس العشرين من ربيع الأول فكانوا يقاتلون النهار كله، فإذا جن الليل ونزلنا أغفلونا إلى أن ننام، ثم يركبونا في ماءه فارس ويدفعون خيلهم في بعض جوانبنا ويرفعون أصواتهم بالصياح فما نفر من خيلنا وخرج إليهم أخذوه.

أسامة جريح


وانقطعت يوما عن أصحابي وتحتي حصان أبيض هو أردى خيلي، شده الركابي ولايدري ما يجري، وما معي من السلاح غير سيفي، فحمل علي العرب فلم أجد ما أدفعهم به، ولا ينجيني منهم حصاني، وقد وصلتني رماحهم قلت أثب عن الحصان واخذب سيفي أدفعهم. فجمعت نفسي لأثب فتتعتع الحصان فوقعت على الحجارة وأرض خشنه فانقطعت قطعه من جلدة رأسي ودخت حتى ما بقيت ادري بما انا فيه فوقفت علي منهم قوم وأنا جالس مكشوف الرأس غائب الذهن وسيفي مرمي بجهازه، فضربني واحد منهم ضربتين بالسيف وقال هات الوزن وأنا لا أدري ما يقول، ثم أخذ حصاني وسيفي. ورآني الأتراك فعادوا إلي، ونفذ لي ناصر الدين بن عباس حصاناًوسيفاًوسرت وأنا لاأقدر على عصابة أشد بها جراحي، فسبحان من لا يزول ملكه. وسرنا وما مع أحد منا كف زاد، وإذا أردت أشرب ماء ترجلت، شربت بيدي، وقبل أن أخرج بليلة جلست في بعض دهاليز داري على كرسي وعرضوا علي ستة عشر جمل روايا وما شاء الله سبحانه من القرب والسطائح. وعجزت عن حمل أهلي فردتهم من بلبيس إلى عند الملك الصالح أبي الغارات طلائع ابن زريك رحمه الله فأحسن إليهم وأنزلهم في دار واجرى لهم ما يحتاجونه. ولما أراد العرب الذين يقاتلونا الرجوع عنا جاءونا يطلبون حسبنا إذا عدنا.

عباس يقتله الإفرنج


وسرنا إلى يوم الأحد ثالث وعشرين ربيع الأخر فصبحنا الإفرنج جمعهم على المليح فقتلوا عباساً وابنه حسام الملك وأسروا ابنه ناصر الدين وأخذوا خزانته وحرمه وقتلوا من ظفروا به، وأخذ أخي نجم الدولة أبا عبد الله محمد رحمه الله أسيراً، وعادوا عنا ونحن قد تحصنا عنهم في الجبال.


مخاطر وادي موسى


فسرنا أشد من الموت في بلاد الفرنج بغير بغداد زاد للرجال ولاعلف للخيل إلى أن وصلنا جبال بني فهيد لعنهم الله في وادي موسى، وطلعنا في طرقات ضيقه وعره إلى أرض فسيحة والرجال وشياطين رجيمة من ظفروا به منا منفرد قتلوه. وتلك الناحية لا تخلو من بعض بني ربيعة الأمراء الطائيين، فسألت من ها هنا من الأمراء بني ربيعة؟ قالوا منصور بن غدفل وهو صديقي فدفعت لواحد دينارين وقلت أمض إلى المنصور قل له صديقك ابن منقذ يسلم عليك ويقول لك صل إليه بكره، وبتنا في مبيت سوء من خوفهم.
فلما أضاء الصبح اخذوا عدتهم ووقفوا على عين وقالوا ما ندعكم تشربون ماءنا ونهلك ونحن بالعطش. وتلك العين تكفي ربيعة ومضر، وكم في أرضهم مثلها، وإنما قصدهم أن ينشئوا الشر بيننا وبينهم ويأخذونا، ونحن فيما نحن فيه ومنصور بن غدفل وصل، فصاح عليهم وسبهم فتفرقوا. وقال أركب فركبنا ونزلنا في طريق أضيق من الطريق التي طلعت فيها وأوعر. فنزلنا إلى لوطا سالمين، وما كدنا نسلم. فجمعت للأمير منصور ألف دينار مصريه ودفعتها إليه وعاد.


في دمشق


وسرنا حتى وصلنا بلد دمشق بمن سلم من الإفرنج وبني فهيد يوم الجمعة خامس ربيع الآخر من السنة. وكانت السلامة من تلك الطريق من دلائل قدرة الله عز وجل وحسن دفاعه.

قصة السرج


ومن عجيب ما جرى لي في تلك الواقعة أن الظافر كان أرسل إلى ابن عباس وهواراً صغير اً مليحاً إفرنجيا. وكنت قد خرجت إلى قرية لي، وابني أبو الفوارس مرهف عند ابن عباس فقالكنا نريد لهذا الرهوار سرجاً مليحاً من السروج الغزية فقال له ابني قد وجدته يا مولاي وهو فوق الغرض قال أين هو قال في دار خادمك والدي له سرج غزي مليح قال انفذ أحضره فأرسل رسولاً إلى داري أخذ السرج فأعجبه وشد به على الرهوار وكان السرج طلع معي من الشام على بعض الجنائب وهو منبت مجرى بسواد في غاية الحسن وزنه مائة مثقال وثلاثون مثقالاً. ووصلت أنا من الإقطاع فقال لي ناصر لدين أدللنا عليك أخذنا هذا السرج من دارك فقلت يا مولاي ماسعدني بخدمتك! فلما خرج علينا الإفرنج بالمويلح كان معي من مماليكي خمسه رجال على الجمال أخذت العرب خيلهم. فلما وقع الإفرنج بقيت الخيل سائبه، فنزل الغلمان عن الجمال واعترضوا الخيل وأخذوا منها ما ركبوه. فكان على بعض الخيل التي أخذوها ذلك السرج الذهب الذي أخذه ابن عباس. وكان حسام الملك ابن عم عباس وأخو عباس ابن العادل قد سلما فيمن سلم منا. وقد سمع حسام الملك خبر السرج وأنا أسمع كل ما كان لهذا المسكين يعني ابن عباس قد نهب فمنه ما نهب الإفرنج، ومنه ما نهبه أصحابه قلت لعلك تعني السرج الذهب قال نعم فأمرت بإحضاره وقلت اقرأ ما عليه اسم عباس عليه وابنه أو اسمي ومن كان في مصر يقدر يركب بسرج ذهب في أيام الحافظ غيري وكان أسمي مكتب على دائر السرج بالسواد ووسطه منبت. فلما قرأ ما عليه إعتذر وسكت.

عدم الاتعاظ بنكبة رضوان


ولولا نفاد المشيئة في عباس وابنه وعواقب البغي وكفر النعمة كان اتعظ بما جرى قبله للأفضل رضوان بن الولخشي رحمه الله، كان وزيرا فقام الجند عليه بأمر الحافظ كما قاموا على عباس، فخرج من مصر يريد الشام ونهبت داره وحرمه حتى أن رجلاً يعرف بالقائد مقبل رأى مع السودان جاريه فاشتراها منهم وبعثها إلى داره، وكانت له امرأة صالحه فاطلعت الجارية إلى الحجرة في علو الدار فسمعتها تقول لعل الله يظفرنا بمن بغى علينا وكفر نعمتنا. فسألتها من أنت فقالت قطر الندى بنت رضوان فنفذت المرأة إلى زوجها القائد مقبل أحضرته وهو على باب القصر في خدمته فعرفته حال البنت. فكتب إلى الحافظ مطالعه فعرف بذلك. فنفذ من خدام القصر من أخذها من دار مقبل ورفعها إلى القصر.

أسامه بمهمة سياسية تجاه رضوان


ثم أن رضوان وصل إلى صلخد وفيها أمين الدولة طغد كين أتابك رحمه الله فأكرمه وأنزله وخدمه. وملك الأمراء أتابك زنكي بن اقسنقر رحمه الله على بعلبك يحاصرها. فراسل رضوان واستقر انه يمضي إليه وكان رجلاً كاملاً كريماً شجاعاً كاتباً عارفا، وللجند إليه ميل عظيم لكرمه. فقال لي الأمير معين الدين رضي الله عنه هذا ان انضاف إلى أتابك دخل علينا منه ضرر كثير قلت فأي شيء ترى قال تسير إليه لعلك ترد رأيه عن قصد أتابك ويكون وصوله إلى دمشق وأنت ترى فيما تفعله في هذا رأيك فسرت إليه إلى صلخد واجتمعت به وبأخيه الأوحد وتحدثت معهما. فقال لي الأفضل رضوانفرط الأمر مني ورهنت قولي عند هذا السلطان بوصولي إليه، ولزمني الوفاء بقولي. قلت أقدمك الله على خير وأنا أعود إلى صاحبي فأنه ما يستغني عني بعد أن اخرج إليك بما في نفسي قال قل قلت إذا وصلت إلى أتابك معه من العسكر ما ينفذ نصفه معك إلى مصر ويبقى نصفه يحاصرنا به قال لا قلت فإذا هو نزل على دمشق وحاصرها وأخذها بعد المدة الطويلة يقدر وقد ضعف عسكرة وفرغت نفقاتهم وطالت سفرتهم، يسير معك إلى مصر قبل أن يجدد بركه ويقوي عسكرت قال لا قلت ذلك الوقت يقول لك نسير إلى حلب نجدد آلة سفرنا فإذا وصلتم إلى حلب قال نمضي إلى الفرات نجمع التركمان فإذا نزلتم على الفرات قال إن لم نعد الفرات ما يجتمع لنا التركمان فإذا عديتم تشوف بك وافتخر على سلاطين الشرق وقال هذا عزيز مصر في خدمتي وتتمنى ذلك الوقت أن ترى حجرا من حجارة الشام فلا تقدر عليها وتذكر حينئذً كلامي وتقول نصحني ما قبلت فاطرق مفكرا لا يدري ما يقول ثم التفت إلي وقال ماذا أعمل؟ وأنت تريد ترجع. قلت أن كان في مقامي مصلحه أقمت. قال نعم فاقمت. وتكرر الحديث بيني وبينه حتى استقر وصوله إلى دمشق.، وان يكون له ثلاثون ألف دينار نصفها نقد ونصفها إقطاع، ويكون له دار العقيقي، ويخرج لأصحابه ديوان. وكتب لي خطه بذلك وكان كاتبا حسنا. وقال أن شئت سرت معك. قلت لا أنا أسير ومعي الحمام من هاهنا. فإذا وصلت واخيلت الدار ورتبت الأمر، طيرت إليك الحمام وسرت أنا في الوقت ألقاك في نصف الطريق وادخل بين يديك فتقرر ذلك وودعته وسرت.

رضوان في حبس مصر


و كان أمين الدولة يشتهي مصيره إلى مصر لما قد وعده به واطعمه فبه، فجمع له من قدر عليه وسيره بعد مفارقتي له. فلما دخل حدود مصر غدر به الذين كانوا معه من الأتراك ونهبوا ثقله، والتجأ هو إلي حي من أحياء العرب وراسل الحافظ وطلب منه الأمان وعاد إلى مصر، فساعة وصوله إلى مصر أمر به الحافظ فحبس هو وولده. واتفق طلوعي إلى مصر وهو في الحبس في دار في جانب القصر فنقب بمسمار حديد أربعه عشر ذرعا وخرج ليله الخميس وله من الأمراء نسيب قد عرف امره فهو عند القصر ينتظره ومصطنع له من لواته، ومشوا إلى النيل عدوا إلى الجيزة واختبطت القاهرة لهروبه. وأصبح في منظره في الجيزة والناس يجتمعون إليه. وعسكر مصر قد تأهب لقتاله، ثم اصبح بكره الجمعه عدى إلى القاهرة والعسكر المصري مع قيماز صاحب الباب مدرعين للقاء، فلما وصلهم هزمهم ودخل القاهرة

رضوان يقتله الحرس الفاطمي


وكنت قد ركبت أنا واصحابي إلى باب القصر قبل دخوله البلد فوجدت أبواب القصر مغلقه وما عندها أحد، فرجعت نزلت في داري، ونزل رضوان في الجامع الأقمر واجتمع إليه الأمراء وحملوا إليه الطعام والنفقه. وقد جمع الحافظ قوما من السودان في القصر شربوا وسكروا، وفتح لهم باب القصر فخرجوا يريدون رضوانا. فلما وقع الصياح ركب الأمراء كلهم من عند رضوان وتفرقوا هو من الجامع، وجد حصانه قد أخذه الركابي وراح، فرآه رجل من صبيان الخاص واقفاً على باب الجامع فقاليا مولاي ما تركب حصاني؟ قال بلى فجاء إليه يركض وسيفه بيده، فأومأ كأنه يميل للنزول وضربه بالسيف فوقع، ووصله في السودان قتلوه، وتقاسم أهل مصر لحمه يأكلونه ليكونوا شجعاناً. فقد كان فيه معتبر وواعظ لولا نفاذ المشيئة.

بالفصاد ينجو جريح


وأصاب ذلك اليوم رجلاً من أصحابنا الشامين جراح كثيرة، فجاءني أخوه وقالأخي تالف قد وقع فيه كذا وكذا جرح سيوف وغيرها، وهو مغمور ما يفيق. قلت ارجع افصده. قالقد خرج منه عشرون رطل دم. قلت إرجع إفصده، فأنا اخبر منك بالجراح وليس له دواء غير الفصاد. فمضى غاب عني ساعتين ثم عاد وهو مستبشر، قال أنا فصدته وهو أفاق وأكل وشرب وذهب عنه البؤس. قلت الحمد الله ولولا أني جربت هذا في نفسي عدة مرار ما وصفته لك.