العقل والقتال

قلت تفاوضنا يوما في ذكر القتال ومؤدبي الشيخ العالم ابو عبد الله محمد بن يوسف المعروف بابن المنيرة رحمه الله يسمع. فقلت لهيا أستاذ لو ركبت حصاناً ولبست كزاغندا وخوذة وتقلدت سيفاً وحملت رمحاً وترساً ووقفت عند مشهد العاصي موضع ضيق كان الإفرنج لعنهم الله يجتازون به مل كان يجوزك أحد منهم. قالبلى والله موكلكم قلتكانوا يهابونك ولا يعرفونك. قالسبحان الله! فأنا ما أعرف نفسي! ثم قال لي يا فلان ما يقاتل عاقل. قلت يا أستاذ تحكم على فلان وفلان وعددت له رجالاً من أصحابنا من شجعان الفرسان انهم مجانين! قالماذا قصدت إنما العقل لا يحضر وقت القتال. ولو حضرما كان لأنسان يلقي بوجهه السيوف وبصدره الرماح والسهام، ما هذا شيء يقضي به العقل. وكان رحمه الله بالعلم أخبر مما هو بالحبر، فأن العقل هو الذي يحمل على الأقدام على السيوف والرماح والسهام انفه من موقف الجبان وسوء الاحوثة. ودليل ذلك ان الشجاع يلحقه الزمع والرعدة وتغير اللون قبل دخوله في الحرب لما يفكر قيه وتحدث به نفسه مما يريد يعمله ويباشره من الخطر، والنفس ترتاع لذلك وتكرهه، فإذا دخل في الحرب وخاض غمارها ذهب عنه ذلك الزمع والرعدة وتغير اللون. وكل أمر لا يحضره العقل يظهر فيه الخطأ والزلل.

الذهول وعواقبه


ومن ذلك أن الفرنج نزلوا مرة حماة في ازوارها، وفيها زرع مخصب، فضربوا خيامهم في ذلك الزرع، وخرج من شيزر جماعة من الحرامية يدورون بعسكر الفرنج يسرقون منه، فرأوا الخيام بالزرع، فأصبح بعضهم أخبر صاحب حماة وقالالليلة أحرق عسكر الإفرنج كله. قالإن فعلت خلعت عليك. فلما أمسى خرج ومعه نفر على رأيه. قالطرحوا النار غربي الخيام في الزرع لتسوقها الرياح إلى خيامهم، فصار الليل بضوء النار كالنهار، فرآهم الإفرنج فقصدوهم فقتلوا أكثرهم، وما نجى منهم إلا من رمى نفسه بالماء وسبح إلى الجانب الأخر، فهذه أثار الجهل وعواقبه. ورأيت مثل ذلك، وإن لم يكن بالحرب، وقد عسكر الإفرنج على بانياس في جمع كثير ومعه البطرك، وقد ضرب خيمة كبيرة جعلها كنيسة يصلون فيها يتولى خدمتها شيخ شماس منهم وقد فرش أرضها بالحلفاء والحشيش لتحترق البراغيث، فطرح فيه النار وقد يبس، فارتفعت ألسنتها وعلقت بالخيمة فتركتها رماداً فهذا لم يحضره العقل.

حاضر الذهن تحت الأسد


وضده أننا ركبنا في بعض الأيام من شيزر إلى الصيد وعمي رحمه الله معنا وجماعة من العسكر، فخرج علينا السبع من قصباء دخلناها لصيد الدراج. فحمل عليه رجل كردي يقال له زهر الدولة بختيار القبرصي سمي بذلك للطف خلقته وكان رحمه الله من فرسان المسلمين فستقبله السبع فحاص به الحصان فرماه، وجاء السبع وهو ملقى، فرفع رجله فتلقمها السبع وبادرناه فقتلنا السبع واستخلصناه وهو سالم. فقلنا له يا زهر الدولة لما رفعت رجلك إلى فم السبع؟ فقالجسمي كما ترونه ضعيف نحيف، وعلي ثوب وغلالة وما في أكسا من رجلي أن يفرج الله تعالى. فهذا حضره العقل في موضع تزول فيه العقول وأولئك ما حضرهم العقل. فلإنسان أحوج إلى العقل من كل ما سواه، وهو محمود عند العاقل والجاهل.

عم أسامة وحسن إدارته

ومن ذلك أن روجار صاحب إنطاكية كتب إلى عمي يقولقد نفذت فارس من فرساني في شغل مهم إلى القدس، أسأل أن تنفذ خيلك تأخذه أفامية ويوصلنه إلى رفنية. فركب وأرسل إليه من أحضره فلا لقيه قالقد نفذني صاحبي في شغل وسر له، لكنني لقيتك رجلاً عقلاً فأنا أحدثك به فقال له عميمن أين عرفت أني عاقل وما رأيتني قبل الساعة؟ قاللأني رأيت البلاد التي مشيت فيها خربه وبلدك عامر فعرفت أنك ما عمرتها إلا بعقلك وسياستك، وحدثه ما جاء فيه.

تعقل صاحب ديار بكر

وحدثني الأمير فضل بن أبي الهيجاء صاحب أربل قالحدثني أبو الهيجاء قالبعثني السلطان ملك شاه لما وصل الشام إلى الأمير ابن مروان صاحب ديار بكر يقول أريد ثلاثين ألف دينار، فاجتمعت به واعدت عليه الرسالة. فقالتستريح ونتحدث، واصبح أمر ان يدخلوني الحمام ونف آلة الحمام جميعها فضة ونفذ لي بدلة ثياب. وقالوا لفراشيكل آلة الحمام لكم. فلما خرجت لبست ثيابي ورددت جميع الحوائج، فتركني أيام ثم أمر لي بحمام وما أنكر رد الحوائج، وحملوا معي آلة الحمام افضل من الآلة الأولة وبدلة الثياب أفضل من البدلة الاولة وقال القراش لفراشي كما قال اولاً. فلما خرجت لبست ثيابي ورددت الحوائج والثياب، فتركني ثلاثة أربعة أيام ثم عاد ادخلني ثم عاد وادخلني إلى الحمام وحملوا معي الآت فضه أفضل من الآلة وبدلة ثياب افضل من الاولة. فلما خرجت لبست ثيابي ورددت الجميع. فلما حضرت عند الأمير قال لييا ولدي نفذت إليك ثياب ما لبستها، وآلة حمام ما قبلتها ورددتها، أي شيء سبب هذا؟ قلتيا مولاي جئت برسالة السلطان في شغل ما انقضى، اقبل ما تفضلت به وارجع وما انقضى شغل السلطان فكأني ما جئت إلا في حاجتي؟ قاليا ولدي ما رأيت عمارت بلادي وكثرة خيرها وبساتينها وكثرة فلاحيها وعمارة ضياعها؟ أتراني أتلف هذا كله من أجل ثلاثين ألف دينار؟ والله إن الذهب قد كيسته من وقت وصولك، وإنما انتظرت ان يتجاوز السلطان بلادي وتلحقه بالمال خوفاً من أن استقبله بالذي طلب فيطلب مني إذا دنا من بلادي أضعافه فلا تشغل قلبك، فشغلك قد انقضى، ثم نفذ لي ثلاث بدلات التي كان نفذها لي في الثلاث دخلات فقبلتها. ولما تجاوز السلطان ديار بكر أعطاني المال فحملته ولحقت به السلطان.

حسن سياسة صاحب بدليس


وفي حسن السياسة ربح كثير من عمارة البلاد. فمن ذلك ان أتابك زنكي رحمه الله خطب بنت صاحب خلاط وقد مات أبوها وأمها مدبرت البلدي. ونفذ حسام الدولة بن دلماج خطبها لأبنه وهو صاحب بدليس. فسار أتابك بعسكر حسن إلى خلاط على غير الطريق المسلوك لأجل درب بدليس. فسلك فيها الجبال فكنا ننزل بغير خيام، وكل واحد في موضعه من طريق حتى وصلنا خلاط، فخيم أتابك عليها ودخلنا قلعتها وكتبنا المهر. فلما انقضى الشغل فأمر صلاح الدين معظم العسكر ويسري إلى بدليس يقاتلها. فركبنا أول الليل وسرنا وأصبحنا على بدليس، فخرج إلينا حسام الدولة صاحبها فلقينا على فسحة من البلد وأنزل صلاح الدين في الميدان وحمل إليه الضيافة الحسنة، وخدمه وشرب عنده في الميدان وقال يا مولايأي شيء ترسم؟ تعنيت وتعبت في مجيئك. قال أتابك احنقه خطبتك للبنت التي كان خطبها، وأنت بذلت لهم عشرة آلاف دينار نريدها منك. قال السمع والطاعة. فعجل له بعض المال واستمهله بباقيه أياماً عينها، ورجعنا وبلده بحسن سياسته عامر ما دخل عليه خلل.

وصاحب قلعة جعبر

وهذا قريب ممن جرى لنجم الدولة مالك بن سالم رحمه الله. وذلك ان جوسلين أغار على الرقة والقلعة فأخذ كل ما عليها وسبى وساق غنائم كثيرة ونزل مقابل القلعة وبينهم الفرات، فركب نجم الدولة مالك في زورق ومعه ثلاثة أربعة من غلمانه وعبر الفرات إلى جوسلين وبينهما معرفة قديمة، ولما مالك عليه جميل. وظن جوسلين ان في الزرق رسولاً من مالك، فجائه واحد من الإفرنج وقالهذا مالك في الزورق قالما هو صحيح. فأته أخر قالقد نزل مالك من الزورق وهو جاءني يمشي. فقام جوسلين والتقاه وأكرمه ورد عليه جميع ما كان أخذه من الغنائم والسبي، ولولا سياسة نجم الدولة كان خرب بلده.

الشدة التي لا تنفع


إذا أنقضت المدة لم تنفع الشجاعة ولا الشدة.
شاهدت يوماًوقد زحف إلينا عسكر الإفرنج يقاتلنا، ومضى بعضهم مع طغدكين أتابك إلى الحصن الجسر يقاتله. وكان أتابك اجتمع هو وإيلغازي بن أرتق والإفرنج في افامية لمحاربة عساكر السلطان. وكان وصل بها إلى الشام اسباسلار برسق بن برسق وقد نزل حماة يوم الأحد تاسع عشر محرم سنة تسع وخمس مائة. فأما نحن فما قتلونا بالقرب من سور المدينة، فاستظهرنا عليهم ودفعناهم وانبسطنا معهم، فشاهدت رجلاً من أصحابنا يقال له محمد بن سرايا شاب شديد ايد قد حمل عليه فارس من الإفرنج لعنه الله فطعنه في فخذه فنفذ القنطارية فيها، فمسكها محمد وهي في فخذه، وجعل الإفرنجي بجذبها ليأخذها ومحمد يجذبها ليأخذها فترجع في فخذه حتى قورت فخذه. واستلب القنطارية بعد أن تلف فخذه، ومات بعد يومين رحمه الله.


إنقاذ فارس


ورأيت في ذلك اليوم وأنا في جانب الناس في القتال، فارساً قد حمل على فارس منا طعن حصانه قتله، وصاحبنا راجل في الأرض ولا أدري من هو لعبد ما بيننا، فدفعت حصاني إليه خوفاً عليه من الإفرنجي الذي طعنه، وقد بقيت القنطارية في الحصان وهو ميت قد خرجت مصارينه، والإفرنجي الذي طعنه، وقد بقيت القنطارية في الحصان وهو ميت قد خرجت مصارينه، فلا وصلته وجدته ابن عمي ناصر الدولة كامل بن مقلد رحمه الله فوقفت عليه واخليت له ركابي وقلت اركب فلما ركب رددت رأس الحصان إلى المغرب والمدينة من شرقنا. قال ليإلى أين تروح؟ قلت إلى هذا الذي طعن حصانك فهو فرصة. فمد يده وقبض
على عنان الحصان وقالما تطاعن وعلى حصانك لابسان، إذا أوصلتني ارجع طاعنه. فمضيت أوصلته وعدت إلى ذلك الكلب وقد دخل في أصحابه.


مؤمن تنقذه العناية الإلهية


وشاهدت من لطف الله تعالى وحسن دفاعه أن الإفرنج لعنهم الله نزلوا علينا بالفارس والراجل. وبيننا وبينهم العاصي وهو زائد زيادة عظيمة لا يمكنهم أن يجوزا إلينا ولا نقدر
نحن أن نجوز إليهم، فنزلوا على الجبل بخيامهم ونزل منهم قوم إلى البساتين وهي من جانبهم، هملوا خيلهم بالقصيل وناموا، فتجرد شباب من رجال شيزر وخلعوا ثيابهم وأخذوا سيوفهم وسبحوا إلى أولئك النيام فقتلوا بعضهم وتكاثروا على اصحبنا، فرموا نفوسهم إلى الماء وجازوا، وعسكر الفرنج قد ركب من الجبل مثل السيل، ومن جانبهم مسجد يعرف بمسجد أبي المجد بن سمية فيه رجل يقال له حسن الزاهد، وهو واقف على السطح يتوب في المسجد، يصلي وعليه ثياب سود صوف - ونحن نراه ومالنا إليه سبيل وقد جاء الأفرنج فنزلوا على باب المسجد وصعدوا إليه ونحن نقوللاحول ولا قوة إلى بلله! الساعة يقتلونه. فلا والله ما قطع صلاته ولازال من مكانه يصلي ولا نشك ان الله سبحانه أعماهم عنه وستره عن أبصارهم، فسبحان القادر الرحيم.


محسن يفك أسيراً

ومن ألطاف الله تعالى ان ملك الروم لما نزل على شيزر في سنة اثنتين وثلاثين وخمس مائة خرج من شيزر جماعة من الرجالة للقتال فاقتطعهم الروم فقتلوا بعضاً وأسروا بعضاً فكان في جملة من أسروا زاهد من بني كردوس من الصالحية من مولدي محمود بن صالح صاحب حلب. فلما عاد الروم كان معهم مأسورا فوصل القسطنطينية، فهو في بعض الأيام إذ لقيه إنسان فقالأنت ابن كردوس؟ قالنعم قالسر معي أوقفني على صاحبك فسار معه حتى أراه صاحبه. فقاوله على ثمنه حتى تقرر بينه وبين الرومي مبلغ أرضاه فوزن له الثمن وأعطى ابن كردوس نفقة وقالتبلغ بها أهلك وأمض في دعة الله تعالى. فخرج من قسطنطينية وتوصل إلى ان عاد شيزر وذلك من فرج الله تعالى وخفي لطفه، ولا يدري من الذي شراه واطلقه.

ملاك يغيث أسامة


وقد جرى لي ما يشبه ذلك لما خرج علينا الإفرنج في طريق مصر وقتلوا عباس بن أبي الفتوح وابنه نصراً الكبير، انهزمن نحن إلى جبل قريب منا، فصعد الناس فيه رجالة يمشون يجرون خيلهم وأنا على أكديش ولا أستطيع المشي فصعدت وأنا راكب وسفوح ذلك الجبل كلها نقارة وحصى كلما وطئه الفرس انهر تحت قوائمه، فضربت الأكديش ليطلع فما استطاع، تنزل والحصاة والنقارة تنزل به، فترجل عنه وأقمته ووقفت لا أقدر على المشي، فنزل إلي رجل من الجبل ومسك يدي وبرزوني في يدي الأخرى حتى أطلعني، ولا ولله ما أدري من هو ولا عدت رأيته. وقد كان في ذلك الوقت الصعب يمتن فيه بيسير الإحسان ويطلب المكافأة عنه ولقد شربت من بعض الأتراك شربة ماء أعطيته عنها دينارين، ومازال بعد وصولنا دمشق يقتضي حوائجه ويتوصل بي إلى أغراضه لأجل تلك الشربة التي ساقنيها، وما كان ذلك الذي أعانني إلا ملاكاً رحمني الله تعالى فأغاثني به.

من يقاتل في سبيل الله


ومن الناس من يقاتل كما كان الصحابة رضوان الله عليهم يقاتلون للجنة لا لرغبة ولا لسمعة
ومن ذلك أن ملك الأمان الإفرنجي لعنه الله لما وصل الشام اجتمع إليه كل من بالشام من الإفرنج وقصد دمشق، فخرج عسكر دمشق وأهلها لقتالهم وفي جملتهم الفقيه الفندلاوي والشيخ الزاهد عبد الرحمن الحلحولي رحمهما الله، وكان من خيار المسلمين. فلما قاربوهم قال الفقيه لعبد الرحمنما هؤلاء الروم، قال بلى قالفإلى متى نحن وقوف؟ قالسر على أسم الله تعالى. فتقدما قاتلا حتى قتلا رحمهما الله في مكان واحد.