بالدون يسامح عم أسامة بقطيعة

ثم ملك بغدوين البرونس إنطاكية، وكان لأبي وعمي رحمهما الله، جميل كبير حيث كان أسره نور الدولة بلك رحمه الله، وصار بعد قتل بلك إلى حسام الدين تمرتاش بن إيلغازي فحمله إلينا إلى شيزر ليتوسط أبي وعمي رحمهما الله بيعه فاحسنا إليه. فلما ملك كانت لصاحب إنطاكية علينا قطيعة سامحنا بها صار أمرنا في إنطاكية نافذاً

ويتنازل عن إنطاكية لأبن ميمون

فهو فيما فيه وعنده رسول من أصحابنا إذ وصل مركب إلى السويدية فيه صبي عليه أخلاق، فحضر عنده وعرفه ابن ميمون فسلم إنطاكية إليه وخرج إليها وضرب خيمة في ظهرها، فحلف لنا رسولنا الذي كان عنده انه يعني الملك بغدوين أشترى عليق خيله تلك الليلة من السوق، واهراء إنطاكية ملآى من الغلة، ورجع بغدوين إلى القدس.

ابن ميمون يهاجم شيزر

وخرج من ذلك الشيطان ابن ميمون بلية عظيمة فنزل علينا يوماً من الأيام بعسكره فضرب خيامه، ونحن قد ركبنا مقابلهم، فما خرج منهم أحد ونزلوا في خيامهم، ونحن ركاب على شرف نبصرهم، وبيننا وبينهم العاصي فنزل من بيننا إبن عمي ليث الدولة يحيى بن مالك بن حميد رحمه الله يسير إلى العاصي ظنناه يسقي فرسه، فخاض الماء وعبر وسار نحو موكب الإفرنج واقف بالقرب من خيامهم. فلما دنى منهم نزل إليه فارس واحد، فحمل كل واحد منهما على صاحبه، وراغ كل واحد منهما عن طعنه الأخر فتسرعت أنا وأمثالي من الشباب في ذلك الوقت إليهم، ونزل ذلك الموكب وركب ابن ميمون وعسكره وجائوا كالسيل وصاحبنا قد طعنت فرسه، فالتقت أوائل خيلنا وأوائل خيلهم، وفي أجنادنا رجل كردي يقال له ميكائيل وقد جاء في أوائل خيلهم منهزماً وخلفه فارس إفرنجي قد لزه. وللكردي بين يديه ضجيج وصياح عال فلقيته، فمال عن ذلك الكردي وزل عن طريقي وقصد خيل لنا في جماعة على الماء واقفين مما يلينا، وأنا خلفه أجهد أن يلحقه حصاني فأطعنه فلا يلحقه، ولا الإفرنجي يلتفت إلي إلا يريد تلك الخيل المجتمعة إلى أن وصل إلى خيلنا وأنا تابعه، فطعن أصحابي حصانه طعنة أوثقته وأصحابه في أثره في جمع ما لنا بهم قوة. فرجع الفارس وحصانه في أخر رمقه فردهم جميعهم وعاد وهم معه. وكان الفارس ابن ميمون صاحب إنطاكية وهو صبي قد امتلأ قلبه من الرعب، ولو ترك أصحابه هزمونا إلى أن يدخلونا المدينة.

قصة بريكة

كل ذلك وأمة عجوز يقال لها بريكة مملوكة لرجل كردي من أصحابنا يقال له علي بن محبوب واقفه بين الخيل على شط النهر وفي يدها شربة تسقي بها وتسقي الناس، وأكثر أصحابنا الذين كانوا على الشرف لما رأوا الإفرنج مقبلين في ذلك الجمع إندفعوا نحو المدينة وتلك الشيطانه واقفة لا يروعها ذلك الأمر العظيم. وأنا ذاكر شيئاً من أمر هذه بريكة، وإن لم يكن موضعه، لكن الحديث شجون. كان مولاها علي يثدين ولا يشرب الخمر. فقال لوالدي يوماًوالله يا أمير لا أستحل ما آكل من الديوان وما آكل من كسب بريكة، وهو الجاهل يظن ان ذلك السحت الحرام أحل من الديوان الذي هو مستأجر به. وكانت هذه الأمه لها ولد أسمه نصر رجل كبير وكيلاً في ضيعة للوالد رحمه الله وهو رجل يقال له بقية بن الأصيفر. حدثني قالدخلت في الليل البلد أريد الدخول إلى داري في شغل لي. فلما دنوت من البلد بين المقابر في ضوء القمر شخصاً ما هو آدمي ولا هو وحش فوقفت عليه وتهيبته. ثم قلت في نفسيما أنا بقية! ما هذا الخوف من واحد؟ فوضعت سيفي ودروقتي والحربة التي معي ومشيت قليلاً قليلاً وأنا أسمع لذلك الشخص زجلاً وصوتاً فلما قربت منه وثبت عليه وفي يدي دشني فقبضته، وإذا بها بريكة مكشوفة الرأسي وقد نفشت شعرها وهي راكبة قصبة تصهل بين المقابر وتجول. قلتويحكي أي شيء تعملين في هذا الوقت ها هنا؟ قالتأسحر قلتقبحك الله وقبح سحرك وصنعتك من بين الصنائع!

امرأة تقاتل في شيزر

اذكرني قوة نفس هذه الكلبة بأمور جرت للنساء في الواقعة التي كانت بيننا وبين الأسماعليية، وإن لم تكن سواء. لقي في ذلك اليوم مقدم القوم علوان ابن حرار ابن عمي سنان الدولة شبيب ابن حامد بن حميد رحمه الله في الحصن وهو تربى فيه. ولدت أنا وهو في يوم واحد السابع والعشرين من جمادى الآخرة سنة ثمانية وثمانين وأربع مائة إلا انه ما باشر الحرب ذلك اليوم وأنا كنت قطبها. فأراد علوان اصطناعها. فقال لهارجع إلى بيتك احمل منه ما تقدر عليه ورح لا تقتل، فالحصن قد ملكناه. فرجع إلى الدار وقالمن كان له شيئاً يعطيني إياه يقول ذلك لعمته ونساء عمه، فكل منهم أعطاه شيئاً، فهو في ذلك إذاً إنسان وقد دخل الدار عليه زردية وخوذة ومعه سيف وترس. فلما رآه ايقن بالموت، فوضع الخوذة وإذا هي ابن عمه ليث الدولة يحيى رحمه الله. فقالتأي شيئاً تريد تعمل؟ قالآخذ ما قدرت عليه، وانزل من الحصن بحبل وأعيش بالدنيا. قالتبئس ما تفعل، تخلي بنات عمك وأهلك للحلاجين وتروح؟ أي عيش يكون عيشك إذا افتضحت في أهلك انهزمت عنهم؟ أخرج قاتل عن أهلك حتى تقتل بينهم، فعل الله بك وفعل. ونعته رحمها الله من الهرب، وكان من الفرسان المعدودين بعد ذلك.

والدة أسامة في القتال

وفي ذلك اليوم فرقت والدتي رحمها الله سيوفي وكزاغنداتي، وجاءت إلى أخت لي كبيرة في السن وقالتألبسي خلفك وإزارك. فلبست وأخذتها إلى روشن في داري يشرف على الوادي من الشرق أجلستها عليه وجلست إلى باب الروشن، ونصرنا الله سبحانه عليهم. وجأت إلى داري أطلب شيئاً من سلاحي ما وجدت إلى جهازات السيوف وعيب الكزاغندات. قلتيا أمي أين سلاحي؟ قالتيا بني أعطيت السلاح لمن يقاتل عن، وما ظننتك سالماً قلتوأختي أي شيء تعمل هاهنا؟ قالتيا بني أجلستها على الروشن وجلست براً منها. إذا رأيت الباطنية وصلوا إلينا دفعتها رميتها إلى الوادي فأراها قد ماتت ولا أراها مع الفلاحين والحلاجين مأسورة. فشكرتها على ذلك وشكرتها الأخت وجزتها خيراً، فهذه النخوة أشد من نخوات الرجال.

عجوز تضرب بالسيف


وتلثمت في ذلك اليوم عجوز من جواري جدي الأمير أبي الحسن علي رحمه الله يقال لها فنون فأخذت سيفاً وخرجت إلى القتال وما زالت كذلك حتى صعدنا وتكاثرنا عليهم.
وما ينكر للنساء الكرام الأنفة والنخوة والإصابة في الرأي.


جدة أسامة تنصحه


ولقد خرجت يوماً من الأيام مع الوالد رحمه الله إلى الصيد، وكان مشغوفاً بالصيد عنده من البزاة والشواهين والصقور والفهود والكلاب الزغارية ما لا يكاد يجتمع عند غيره، ويركب في أربعين فارساً من أولاده ومماليكه كل منهم خبير بالصيد عارف بالقنص، وله بشيزر مصيدانيوماً يركب إلى غربي البلد إلى أزوار وأنهار فيتصيد الدراج والطير الماء والأرنب والغزلان ويقتل الخنازير، ويماً يركب إلى الجبل قبلي البلد يتصيد الحجل والأرانب. فنحن في الجبل يوماً وقد حانت صلاة العصر فنزل ونزلنا نصلي فرادى، وإذا غلام قد جاء يركض قالهذا الأسد! فسلمت قبل الوالد رحمه الله لكيلا يمنعني من قتال الأسد وركبت ومعي رمحي فحملت عليه فأستقبلني وهدر، فحاص بي الحصان ووقع الرمح من يدي لثقله وطردني شوطاً جيداً، ثم رجع إلى سفح الجبل ووقف عليه وهو من أعظم السباع كأنه قنطرة جائع وكلما دنون منه نزل من الجبل، طرد الخيل وعاد إلى مكانه، وما ينزل نزلة إلا يؤثر في أصحابنا.
ولقد رأيته راكباً مع رجل من غلامان عمي يقال له بستكين غرزة على وركي حصانه وخرق بمخالبه ثيابه ورانته وعاد إلى الجبل، فما كان لي فيه حيلة إلا أن صعدت فوقه في سفح الجبل. ثم حدرت حصاني عليه فطعنته فنفذت الرمح فيه وتركته في جانبه، فتقلب إلى أسفل الجبل والرمح فيه، فمات الأسد وانكسر الرمح، والوالد رحمه الله واقف يرانا معه أولاد أخيه عز الدين يبصرون ما يجري وهم صبيان. وحملنا الأسد ودخلنا البلد العشاء، وإذا جدتي لأبي رحمها الله جاءتني في الليل وفي يدها شمعة - وهي عجوز كبيرة قاربت من العمر مائة سنة. فما شككت أنها قد جاءت تهنئني بالسلامة وتعرفني مسرتها بما فعلت. فلقيتها وقبلت يدها فقالتلي بغيظ وغضبيا بني أيش يحملك على هذه المصائب التي تخاطر فيها بنفسك وحصانك وتكسر سلاحك ويزداد قلب عمك منك وحشة ونفوراً.؟ قلتيا ستي أنما أخاطر بنفسي في هذا ومثله لأتقرب إلى قلب عمي. قالتلا والله ما يقربك هذا منه وانه يزيدك منه بعداً ويزيده منك وحشاً ونفوراً. فعلمت أنها نصحتني في قولها وصدقتني، ولعمري إنهن أمهات رجال.
ولقد كانت هذه العجوز رحمها الله من صالحي المسلمين من الدين والدقة والصوم والصلاة على أجمل طريقة، ولقد حضرتها ليلة النصف من شعبان وهي تصلي عند والدي، وكان رحمه الله من أحسن من يتلو كتاب الله تعالى، ووالدته تصلي بصلاته، فأشفق عليها فقاليا أمي لو جلست صليت من قعودة. قالتيا بني بقي لي من العمر ما أعيش إلى ليلة مثل هذه الليلة؟ لا ولله ما أجلس، وكان الوالد قد بلغ السبعين سنة وهي قد شارفت المائة سنة رحمها الله.