ورأى ص جماعة من اليهود مع عبد الله بن أبيّ يريدون الخروج فقال: «أوَقد أسلموا؟» قالوا: لا يا رسول الله، قال: «مروهم فليرجعوا، فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين»، وكان المسلمون الخارجون معه ص 1000 ثم انخذل عبد الله بن أبيّ ورجع هو ومن معه من المنافقين وكانوا 300 فبقي المسلمون 700 وكان عدد المشركين 3000 ولم يكن مع المسلمين يومئذ إلا فرسان: فرس لرسول الله وفرس لأبي بردة.
وقال ابن أبيّ حين أراد الرجوع: عصاني وأطاع الولدان ومن لا رأي به، علامَ نقتل أنفسنا؟ ارجعوا أيها الناس.
لما انخذل ابن أبيّ ومن معه سقط في أيدي طائفتين من المسلمين وهمّتا أن تفشلا وهما: بنو حارثة من الخزرج وبنو سلمة من الأوس.
ثم مضى رسول الله حتى نزل الشعب من أُحد في عدوة الوادي في الجبل فجعل ظهره وعسكره إلى أُحد وصلى الصبح بأصحابه صفوفا، ثم اصطف المسلمون بالسبخة وكان على ميمنة خيل المشركين خالد بن الوليد وعلى مسيرتها عكرمة بن أبي جهل وعلى المشاة صفوان بن أمية، وقيل: عمرو بن العاص.
وقال النبي ص للزبير بن العوام: «استقبل خالدا وكن بإزائه»، وأمر جماعة آخرين أن يكونوا بإزاء خيل أخرى للمشركين ولم يكن مع المسلمين إلا فرس أو فرسان، وجعل النبي ص على الرماة عبد الله بن جبير بن النعمان الأوسي وهو أخو خوات بن جبير، وكان الرماة خمسين رجلا، فأقامهم النبي ص على جبل صغير مرتفع، وقال لهم:
«احموا ظهورنا، لا يأتونا من خلفنا، وارشقوهم بالنبل فإن الخيل لا تقدم على النبل، إنا لا نزال غالبين ما ثبتم مكانكم، اللهم إني أشهدك عليهم».
وفي رواية قال لهم رسول الله:
«إن رأيتمونا تخطفنا الطير، فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم أو ظاهرناهم وهم قتلى فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم».
ثم عرض رسول الله ص سيفا وقال: «من يأخذ هذا السيف بحقه»؟ فقام رجل وبسطوا أيديهم كل إنسان منهم يقول: أنا يا رسول الله، منهم أبو بكر الصديق وعمر وعليّ والزبير، فأمسكه عنهم ولم يعطه لهم حتى قام إليه - أبو دجانة - فقال: وما حقه يا رسول الله؟ قال: أن تضرب في وجه العدو حتى ينحني، قال: أنا آخذه يا رسول الله، قال: لعلك إن أعطيتكه تقاتل في الكيّول - مؤخر الصفوف -، قال: لا يا رسول الله، فأعطاه إياه وكان رجلا شجاعا يختال عند الحرب، فلما رآه ص يتبختر قال: إنها لمشية يبغضها الله تعالى إلا في مثل هذا الموطن، فحمل أبو دجانة لا يلقى أحدا من المشركين إلا قتله، وكان إذا كلّ السيف شحذه بالحجارة ثم يضرب به العدو.
ولما اصطف القوم نادى أبو سفيان: يا معشر الأوس والخزرج خلوا بيننا وبين عمنا وننصرف عنكم، فشتموه أقبح شتم ولعنوه أشد اللعن.
وخرج طلحة بن أبي طلحة وكان بيده لواء المشركين فطلب المبارزة مرارا فلم يخرج إليه أحد، فخرج إليه عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فضربه فقطع رجليه فوقع على الأرض وبدت عورته فرجع عنه ولم يجهز عليه، فأخذ لواء المشركين أخو طلحة وهو عثمان بن أبي طلحة فحمل عليه حمزة فقطع يده وكتفه، فأخذه أخو عثمان وأخو طلحة وهو أبو سعيد بن أبي طلحة فرماه سعد بن أبي وقاص فأصاب حنجرته فقتله، فحمله مسافع بن طلحة ابن أبي طلحة الذي قتله عليّ رضي الله عنه فرماه عاصم أيضا فقتله، ثم حمل اللواء كلاب بن طلحة فقتله الزبير فحمله جلاس بن طلحة فقتله طلحة بن عبيد الله ثم حمله أرطأة بن شرحبيل فقتله عليّ رضي الله عنه ثم حمله أبو زيد بن عمرو فقتله قزمان، فحمله ولد لشرحبيل بن هاشم فقتله قزمان أيضا، ثم حمله صواب غلامهم وكان عبدا حبشيا فقتله عليٌّ، ثم لم يزل اللواء طريحا حتى أخذته عمرة بنت علقمة الحارثية فرفعته لقريش فاستداروا حوله.
قد كان لواء المشركين شؤما عليهم، فكلما حمله أحد قُتل وهكذا قُتل أحد عشر رجلا حملوا اللواء بالتوالي وكان اهتمام المسلمين موجها إلى حامل العلم بنوع خاص لأنه كبش الكتيبة، ونكب بحمل العلم كل من مسافع والحارث وكلاب وجلاس وهؤلاء الأربعة أولاد طلحة بن أبي طلحة فكلهم قُتلوا كأبيهم وعمهم وهما عثمان وأبو سعيد.
ولما قُتل أصحاب اللواء صاروا كتائب متفرقة فجاش المسلمون فيهم ضربا حتى أجهضوهم وأزالوهم عن أمكنتهم وكان شعار المسلمين يومئذ: - أمت أمت - وشعار الكفار: - يا للعزى يا لهبل -.
الكرة على المسلمين

انهزم المشركون ووقع المسلمون ينتهبون المعسكر ويأخذون ما فيه من الغنائم واشتغلوا عن الحرب، فقال أصحاب عبد الله بن جبير وهم الرماة الذين أمرهم النبي ص بالبقاء بمكانهم «الغنيمة» أي قوم قد غلب أصحابكم، فما تنتظرون؟ ومعنى ذلك: أن الرماة طمعوا في الغنيمة ناسين أمر القائد العام وهو رسول الله فإنه أمرهم بالثبات في مراكزهم إذ قال لهم: إنا لا نزال غالبين ما ثبتم مكانكم، فقال لهم قائدهم عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله ص يعني قوله: لا تبرحوا، فأبوا أن يطيعوه، وقالوا: والله لنأتين الناس ولنصيبن من الغنيمة فإن المشركين قد انهزموا فما مقامنا ها هنا؟ وقد ظن هؤلاء أن الحرب قد انتهت وأن قريشا قد هُزمت وقد ثبت عبد الله بن جبير في مكانه وثبت معه دون العشرة.
فلما توجه الرماة إلى محل الغنيمة، كرّ المشركون راجعين، ونظر خالد بن الوليد إلى خلاء الجبل الذي كان فيه الرماة وقلة أهله التف بالخيل من وراء الجبل وتبعه عكرمة بن أبي جهل فحملوا على من بقي من الرماة فقتلوهم وقتلوا أميرهم عبد الله بن جبير ومثلوا به ووقعت الهزيمة في المسلمين بعد مدة وجيزة لأنهم خالفوا ما نهاهم عنه رسول الله فعوقبوا لمخالفته.
ووقع الاختلاط في جيش المسلمين وارتبكوا وصار يضرب بعضهم بعضا.
ثبات رسول الله صلى الله عليه وسلم

ثبت رسول الله ولم يفارق مكانه الذي وصل إليه وقت انهزام المشركين ولم تزل قدمه شبرا واحدا عن موقفه مع أن الاختلاط كان شديدا حتى فقد المسلمون التمييز بينهم وبين أعدائهم وترك المسلمون شعارهم الذي يتعارفون به وهو: (أمت أمت) فوقع القتل في المسلمين بعضهم في بعض، وحافظ المشركون على شعارهم، ومما زاد في ارتباك المسلمين أن رجلا اسمه ابنُ قمئة الليثي قتل مصعب بن عمير وكان يشبه النبي ص إذا لبس لأمته فظن أنه قتل رسول الله فأذاع ذلك وكان مصعب يذب عن رسول الله وكان عدة الشهداء من المسلمين 70 رجلا وعدة القتلى من المشركين 23 رجلا، وكان بين القتلى حنظلة بن أبي سفيان، ووصل العدو إلى رسول الله وأصابته حجارتهم حتى وقع وأُغمي عليه وخدشت ركبتاه، فأخذ عليّ بيده ورفعه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائما، وأصيبت رباعيته اليمنى السفلى وشُج في وجهه وكلمت شفته السفلى وكُسرت الخوذة على رأسه، وامتصّ مالك بن سنان الخدري دم رسول الله ثم ازدرده.
ثم أراد رسول الله أن يعلو الصخرة التي في الشعب، فلما ذهب لينهض لم يستطع لأنه ضعف لكثرة ما خرج من دم رأسه الشريف ووجهه مع كونه عليه درعان فجلس تحته طلحة بن عبيد الله فنهض به حتى استوى عليها، وعطش ص عطشا شديدا، فخرج محمد بن مسلمة رضي الله عنه يطلب له ماء فلم يجد، فذهب إلى مياه فأتى منها بماء عذب، فشرب رسول الله ص ودعا له بخير.
وفي بعض الروايات: أن نساء المدينة خرجن وفيهن فاطمة بنت رسول الله، فلما لقيت رسول الله اعتنقته وجعلت تغسل جراحاته وعليّ رضي الله عنه يسكب الماء فتزايد الدم، فلما رأت ذلك أخذت شيئا من حصير مصنوع من البردى فأحرقته بالنار حتى صار رمادا، فأخذت ذلك الرماد وكمدته حتى لصق بالجرح فاستمسك الدم.