قال ابن إسحاق: وكان ممن قتل يوم أُحد مُخيريق، وكان أحد بني ثعلبة بن الفِطيون، قال: لما كان يوم أُحد قال: يا معشر يهود الله لقد علمتم إن نصر محمد عليكم لحق، قالوا: إن اليوم يوم السبت، قال: لا سبت لكم، فأخذ سيفه وعدته وقال: إن أصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ما شاء، ثم غدا إلى رسول الله ص فقاتل معه حتى قُتل، فقال رسول الله ص فيما بلغنا: «مخيريق خير يهود».
وكان مخيريق أحد بني النضير، حبرا عالما غنيا كثير الأموال من النخل وكا يعرف رسول الله ص بصفته وما يجد في علمه، وخالف قومه اليهود واشترك في موقعة أُحد التي لم يشترك فيها أحد من اليهود غيره فلما قتل قبض رسول الله ص أمواله وتصدق بها، وقيل لمّا حضرته الوفاة قال: أموالي إلى محمد يضعها حيث شاء، وكان ذا مال كثير، ففرقها رسول الله.
انتحار قزمان
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال: كان فينا رجل أتيٌّ لا يُدرى من أين هو يقال له قزمان، وكان رسول الله ص يقول - إذا ذكر له - إنه لمن أهل النار، فلما كان يوم أُحد قاتل قتالا شديدا فقتل وحده ثمانية أو سبعة من المشركين وكان ذا بأس فأثبتته الجراحة فاحتمل إلى دار بني ظفر، فجعل رجال من المسلمين يقولون له: والله لقد أبليت اليوم يا قزمان فأبشر، قال: بماذا أبشر فوالله إن قاتلت إلا عن أحساب قومي ولولا ذلك ما قاتلت، فلما اشتدت عليه جراحته أخذ سهما من كنانته فقطع رواهشه فنزفه الدم فمات، فأخبر به رسول الله ص فقال: «أشهد أني رسول الله حقا» وذلك لأنه مات منتحرا.
دفن قتلى أحد
كثرت القتلى يوم أُحد فكان الرجل والرجلان والثلاثة يكفنون في الثوب الواحد ثم يدفنون في القبر الواحد بدمائهم وأمر النبي ص بدفن شهداء أُحد ولم يصلِّ على أحد منهم ولم يغسلهم، وحمل أناس موتاهم ليدفنوهم بالمدينة فجاءهم منادي رسول الله ص يقول: ردوا القتلى إلى مضاجعهم، فأدرك المنادي واحدا وهو شماس بن عثمان المخزومي فإنه قل وحمل إلى المدينة وبه رمق فقال رسول الله: «احملوه إلى أم سلمة»، فحمل إليها فمات عندها فأمر رسول الله أن يرد إلى أُحد فيدفن هناك ولم يكن قد دُفن بالمدينة أما من دُفن فأبقوه.
وقال رسول الله ص «انظروا عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو حرام فإنهما كانا متصافين في الدنيا فاجعلوهما في قبر واحد».
رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة
لما أراد رسول الله الرجوع إلى المدينة ركب فرسه وخرج المسلمون حوله وعامتهم جرحى ومعه أربع عشرة امرأة، فلما كانوا بأصل أُحد قال: «اصطفوا حتى أثني على ربي عز وجل» - فكان عليه الصلاة والسلام يحب النظام -، فاصطف الرجال خلفه صفوفا وخلفهم النساء فقال:
«اللهم لك الحمد كله، لا قابض لما بسطت ولا باسط لما قبضت ولا هادي لمن أضللت ولا مضل لمن هديت ولا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت ولا مقرب لما أبعدت ولا مبعد لما قربت» الحديث، ثم عاد إلى المدينة يهدّىء روع نساء القتلى ويدعو لهن وقد نهاهن عن اللطم وحلق الرؤوس وتخميش الوجوه وشق الجيوب.
ولم يخاطب رسول الله الذين انهزموا وعادوا إلى المدينة بالتغليظ والتشديد وإنما خاطبهم بالكلام اللين وعفا عنهم فزاد في الفضل والإحسان، قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159) وهذا اللين والعفو من حسن خلق الرسول ص
وباتت وجوه الأوس والخزرج تلك الليلة على بابه ص بالمسجد يحرسونه خوفا من قريش أن تعود إلى المدينة، لكنهم لم يعودوا.
شماتة اليهود والمنافقين
لما وصل ص المدينة، أظهر المنافقون واليهود الشماتة والشرور وصاروا يظهرون أقبح القول ومنه ما محمد إلا طالب ملك، ما أصيب بمثل هذا نبيّ قط، أصيب في بدنه وأصيب في أصحابه ويقولون، لو كان من قتل منكم عندنا ما قتل وصار ابن أُبيّ يوبخ ابنه عبد الله الذي جرح في موقعة أُحد، فقال له ابنه: الذي صنع الله لرسوله خير، وهكذا كان اليهود ينتهزون الفرص لتخذيل المسلمين وتثبيط هممهم.
نزول الملائكة يوم أحد
قال عبيد بن عمير: لم تقاتل الملائكة يوم أُحد، وقال الواقدي: وحدثني ابن أبي سبرة عن عبد الحميد بن سهيل عن عمر بن الحكم، قال: لم يمر رسول الله ص يوم أُحد بملك واحد وإنما كانوا يوم بدر، قال ومثله عن عكرمة، قال: وقال مجاهد: حضرت الملائكة يوم أُحد ولم تقاتل وإنما قاتلت يوم بدر، قال: ورُوي عن أبي هريرة أنه قال: وعدهم الله أن يمدهم لو صبروا فلما انكشفوا لم تقاتل الملائكة يومئذ إنما الثابت بنص القرآن ورواية الصحابة أنهم نزلوا وقاتلوا في غزوة بدر.
ذكر غزوة أحد في القرآن
أنزل الله تعالى من القرآن في غزوة أُحد ستين آية في سورة آل عمران، قال تعالى:
{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوّىء الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (آل عمران: 121، 122).
قال أكثر العلماء بالمغازي: إن هذه الآية نزلت في وقعة أُحد، وقد كان المسلمون يومئذ كثيرين فلما انشقوا وخالفوا أمر الرسول انهزموا، وقال جل شأنه:
{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (آل عمران: 123): إنه تعالى لما ذكر قصة أُحد أتبعها بذكر قصة بدر لأن المسلمين كانوا في غاية الضعف والكفار في غاية القوة، ولكن لما كان الله ناصرا لهم قهروا خصومهم، ثم قال تعالى:
{إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ ءالاَفٍ مّنَ الْمَلَئِكَةِ مُنزَلِينَ} (آل عمران: 124)، إن هذا الوعد كان يوم بدر وهو قول أكثر المفسرين، وقد قالوا: إن الملائكة حاربوا يوم بدر ولم يقاتلوا في سائر الأيام وهذا المدد من المعجزات.
{بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءالآفٍ مّنَ الْمَلَئِكَةِ مُسَوّمِينَ} (آل عمران: 125).
فجعل مجيء خمسة آلاف من الملائكة مشروطا بثلاثة أمور: الصبر، والتقوى، ومجيء الكفار على الفور فلما لم توجد هذه الشرائط لا جرم لم يوجد المشروط.
{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ لِيَقْطَعَ طَرَفا مّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ} (آل عمران: 126، 127)، والمراد بالكبت الإخزاء والإهلاك والهزيمة والغيظ والإذلال، فكل ذلك ذكره المفسرون في تفسير الكبت.
{لَيْسَ لَكَ مِنَ الاْمْرِ شَىْء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَلِمُونَ} - (آل عمران: 128).
نزلت هذه الآية في قصة أُحد لأن النبي ص لما شجه عتبة بن أبي وقاص وكسر رباعيته جعل يمسح الدم عن وجهه وهو يقول: «كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم» فنزلت هذه الآية وقيل: إنه لعن أقواما فنزلت هذه الآية.
إلى أن قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَبِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئا وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّكِرِينَ} (آل عمران: 144).
ولما وقع الصراخ بأن محمدا قتل كما تقدم ذكره في غزوة أُحد، قال بعضهم: لو كان نبيا لما قُتل، ارجعوا إلى إخوانكم وإلى دينكم، فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك: «يا قوم إن كان قد قُتل محمد فإن رب محمد حيٌّ لا يموت، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله ص قاتلوا على ما قاتل عليه وموتوا على ما مات عليه»، ثم قال: «اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء» ثم سلَّ سيفه فقاتل حتى قُتل، ولما شج وجه رسول الله ص وكسرت رباعيته احتمله طلحة بن عبيد الله ودافع عنه أبو بكر وعليّ رضي الله عنه ونفر آخرون معهم، ثم إن رسول الله ص جعل ينادي ويقول: «إليّ عباد الله» حتى انحازت إليه طائفة من أصحابه فلامهم على هزيمتهم، فقالوا: يا رسول الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا أتانا خبر قتلك فاستولى الرعب على قلوبنا فولينا مدبرين.
وقد ذكر الله تعالى الحكمة في ما أصاب المؤمنين بمخالفتهم أمر النبي ص وعرفهم سوء عاقبة المعصية وشؤم ارتكاب المخالفة بما وقع من ترك الرماة موقفهم الذي أمرهم رسول الله ص ألا يبرحوا عنه بقوله تعالى:
{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَزَعْتُمْ فِى الاْمْرِ وَعَصَيْتُمْ مّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الاْخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (آل عمران: 152).
وقال تعالى تعزية لأصحاب رسول الله على ما أصابهم من الجراح والقتل بأُحد: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ لله} (آل عمران: 139)، يعني لا تضعفوا بالذي نالكم من عدوكم بأُحد من القتل والقروح عن جهاد عدوكم وحربهم ولا تحزنوا ولا تأسوا فتجزوا على ما أصابكم من المصيبة يومئذ فأنتم الأعلون، أي الظاهرون عليهم ولكم العقبى في الظفر والنصرة عليهم إن كنتم مؤمنين.
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 23 (0 من الأعضاء و 23 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)