غزوة بني قريظة ذو القعدة سنة خمس




إبريل سنة 627 م
بنو قُرَيْظَة قوم من اليهود بالمدينة من حلفاء الأوس، وسيد الأوس حينئذ سعد بن معاذ.
ذكرنا أن بني قريظة نقضوا العهد وحاربوا رسول الله مع الأحزاب واشتد البلاء على المسلمين ثم كفوا عن القتال لما أوقعه نُعيم من الفشل بينهم وبين قريش فكان تأديبهم أمرا لا مناص عنه لأن وجودهم بالمدينة فتنة تهدد المسلمين، ولأنهم هم الذين حزبوا الأحزاب، وانضموا إلى الأعداء، في غزوة الخندق.
لما انصرف رسول الله من الخندق دخل المدينة لسبع بقين من ذي القعدة سنة خمس هو وأصحابه ووضعوا السلاح وكان قد صلى الصبح ودخل بيت عائشة رضي الله عنها، فلما كان وقت الظهيرة أتى جبريل عليه السلام رسول الله معتجرا بعمامة من استبرق على بغلة عليها رحالة عليها قطيفة من ديباج فقال: أوَقد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال: «نعم»، فقال جبريل: فما وضعت الملائكة السلاح بعد، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم إن الله عز وجل يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة فإني عامد إليهم فمزلزل بهم، وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ص لما رجع يوم الخندق ووضع السلاح واغتسل فأتاه جبريل وقد عصب رأسه الغبار فقال: وضعت السلاح فوالله ما وضعته، فقال رسول الله ص «فأين؟» قال: ها هنا، وأومأ إلى بني قريظة، قالت: فخرج إليهم رسول الله ص
فأمر رسول الله ص مؤذنا فأذن في الناس من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم فيما قال ابن هشام.
وقدم رسول الله ص عليّ بن أبي طالب برايته إلى بني قريظة وابتدرها الناس، وكان عدد من خرج إلى القتال ثلاثة آلاف والخيل ستة وثلاثين فرسا.
دنا عليّ كرّم الله وجهه من الحصن، ومعه نفر من المهاجرين والأنصار وغرز اللواء عند أصل الحصن، فسمع من بني قريظة مقالة قبيحة في حقه ص وحق أزواجه فرجع حتى لقي رسول الله بالطريق فقال: يا رسول الله لا عليك ألاّ تدنو من هؤلاء الأخابث، قال: لِمَ؟ أظنك سمعت لي منهم أذى، قال: نعم يا رسول الله لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا، فلما دنا رسول الله من حصونهم قال: «يا إخوان القردة هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته؟» قالوا: يا أبا القاسم ما كنت جهولا.
ومرّ رسول الله ص بنفرٍ من أصحابه بالصوْرَين قبل أن يصل إلى بني قريظة فقال: «هل مرّ بكم أحد؟» قالوا: يا رسول الله قد مرّ بنا دحية بن خليفة الكلبي على بغلة بيضاء عليها رحالة، عليها قطيفة ديباج فقال رسول الله ص «ذلك جبريل بُعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم ويقذف الرعب في قلوبهم».
وحاصرهم رسول الله ص خمسا وعشرين ليلة كما قال ابن إسحاق وقال الواقدي: إحدى وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب، وكان طعام الصحابة التمر يرسل به إليهم سعد بن عبادة.
وقد كان حُيَيّ بن أخطب دخل على بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده عليه، فلما أيقنوا أن رسول الله ص غير منصرف عنهم حتى يناجزهم (يقاتلهم) قال كعب بن أسد لهم:
يا معشر اليهود إنه قد نزل بكم من الأمر ما ترون وإني عارض عليكم خلالا ثلاثا فخذوا أيّها شئتم، قالوا: وما هن؟ قال: نتابع هذا الرجل ونصدقه فوالله لقد كان تبين لكم أنه لنبيٌّ مرسل وإنه للذي كنتم تجدونه في كتابكم فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم، قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا ولا نستبدل به غيره.
قال: فإذا أبيتم عليَّ هذه فهَلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالا مُصْلتين بالسيوف ولم نترك وراءنا ثقلا يهمنا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد فإن نهلك، نهلك ولم نترك وراءنا نسلا نخشى عليه وإن نظفر فلعمري لنجدن النساء والأبناء.
قالوا: نقتل هؤلاء المساكين فما خير العيش بعدهم؟.
قال: فإذا أبيتم هذه عليَّ فإن الليلة ليلة السبت وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمِنوا فيها فانزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غِرَّة (غفلة).
قالوا: نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يكن أحدث فيه من كان قبلنا إلا من قد علمت فأصابه من المسخ ما لم يخف عليك.
قال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازما.
ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله ص أن ابعث إلينا أبا لُبابة وهو رفاعة بن عبد المنذر أخو بني عمرو بن عوف وكانوا حلفاء الأوس نستشيره في أمرنا، فأرسله رسول الله صص إليهم فلما رأوه، قام إليه الرجال وجهش إليه النساء والصبيان (أي أسرعوا إليه) يبكون في وجهه من شدة المحاصرة فرق لهم وقالوا له: يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه «إنه الذبح» قال أبو لبابة: فوالله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني قد خنتُ الله ورسوله (بإذاعة سره) ومن هذا يتبين أن أبا لبابة كان يعلم أنهم سيقتلون قبل أن يحكم فيهم سعد.
ثم انطلق أبو لبابة على وجهه ولم يأت رسول الله ص حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده وقال: لا أبرح مكاني هذا حتى أموت أو يتوب الله عليَّ مما صنعت وعاهد الله أن لا يطأ بني قريظة أبدا، وقال: لا يراني الله في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا، فلما بلغ رسول الله ص خبره وأبطأ عليه وكان قد استبطأه قال: «أما لو جاءني لاستغفرت له، فأما إذا فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه».
ثم إن توبة أبي لبابة أنزلت على رسول الله ص وهو في بيت أم سلمة فبشرت أبا لبابة بذلك ثم أطلقه رسول الله ص
فلما أصبحوا نزلوا على حكم رسول الله ص فتواثبت الأوس فقالوا: يا رسول الله إنهم موالينا دون الخزرج وقد فعلت في موالي الخزرج بالأمس ما قد علمت وقد كان رسول الله ص قبل بني قريظة حاصر بني قينقاع، وكانوا حلفاء الخزرج فنزلوا على حكمه، فسأله إياهم عبد الله ابن أبي بن سلول فوهبهم له، فلما كلمه الأوس قال رسول الله ص «ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؟» قالوا: بلى، قال: «فذاك إلى سعد بن معاذ» وكان سعد بن معاذ قد جعله رسول الله ص في خيمة امرأة من المسلمين يُقال لها رُفَيدة في مسجده كانت تداوي الجرحى وتحتسب نفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين، وقد قال رسول الله ص لقومه حين أصابه السهم بالخندق: «اجعلوه في خيمة رُفيدة حتى أعوده من قريب».