أمر الحديبية ذو القعدة 6 هـ




(فبراير سنة 628 م)
الحدَيبية هي بئر سُمي المكان باسمها؛ وهي قرية متوسطة ليست بالكبيرة وبينها وبين مكة مرحلة وبينها وبين المدينةِ تسع مراحل وبعضها في الحل وبعضها في الحرم.
وسببها: أن النبي ص رأى في منامه أنه دخل البيت هو وأصحابه آمنين محلِّقين رؤوسهم ومقصرين.
فخرج رسول الله ص من المدينة في ذي القعدة من السنة السادسة (فبراير سنة 628 م) معتمرا «زائرا البيت» لا يريد حربا بعد أن مضى عليه ص ست سنوات بعد الهجرة لم يزر فيها مكة ولم يعتمر ولم يحجّ فاشتاق إليها فخرج في هذه السنة معتمرا واستنفر العرب من البوادي ومن حوله من الأعراب ممن أسلم ليخرجوا معه وهو يخشى من قريش أن يتعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت فأبطأ عليه كثير من الأعراب خشية من قريش أن يحاربوه فخرج بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن لحق من العرب وساق معه الهدي (ما يهدى إلى الحرم من النعم) وأحرم بالعمرة بذي الحليفة بعد أن صلى بالمسجد الذي بها ركعتين ليأمن الناس حربه وليعلموا أنه إنما خرج زائرا للبيت ومعظما له وأخرج معه زوجته أم سلمة رضي الله تعالى عنها، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم رضي الله عنه للصلاة وأبا رُهْم حافظا للمدينة وجملة أصحابه الذين خرجوا معه من 1400 إلى 1600 وركب رسول الله راحلته القصواء.
أما ما رواه ابن إسحاق من أنه ساق معه الهدي 70 بدنة وكان الناس 700 رجل فكانت كل بدنة عن عشرة نفر، فلا بد أن يكون هذا العدد في بدء خروجهم قبل أن ينضم إليه من عداهم من الأعراب، ولم يخرج معه بسلاح إلا سلاح المسافر، السيوف في القُرُب، فلما كان بعُسْفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي، فقال له: يا رسول الله هذه قريش قد سمعوا بمسيرك فخرجوا ومعهم العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور وقد نزلوا بذي طوى يحلفون بالله لا تدخلها عليهم أبدا، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموا إلى كراع الغميم، فقال رسول الله ص «يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة فما تظن قريش؟ فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة»، ثم قال: «من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها؟» فقال رجل من أسلم: أنا يا رسول الله، فسلك بهم طريقا وعرا (واسم هذا الرجل حمزة بن عمرو الأسلمي) فخرجوا منه بعد أن شق عليهم وأفضوا إلى طريق سهامة عند منقطع الوادي، قال رسول الله ص للناس: «قولوا نستغفر الله ونتوب إليه» فقالوا ذلك، فقال: «والله إنها للحطة التي عرضت على بني إسرائيل فلم يقولوها».
ثم أمر رسول الله ص الناس فقال: «اسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمض في طريق على ثنية المرار مهبط الحديبية من أسفل مكة» فسلك الجيش ذلك الطريق فلما رأت خيل قريش قترة الجيش قد خالفوا، رجعوا راكضين إلى قريش (ذكر أن فرسان قريش كانوا 200 منهم عكرمة بن أبي جهل وكان قائدهم خالد بن الوليد).
خرج رسول الله ص حتى إذا سلك في ثنية المرار بركت ناقته القصواء فقال الناس خلأت، فقال: «ما خلأت وما هو لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها».
ثم قال للناس: «انزلوا، فقالوا: يا رسول الله ما بالوادي ماء ينزل عليه» فأخرج سهما من كنانته فأعطاه رجلا من أصحابه فنزل به في قليب من تلك القلب فغرزه في جوفه فجاش بالرواء حتى ضرب الناس عنه بعطن واختلف فيمن نزل في القليب بسهم رسول الله ص فقيل: هو سائق بدنه ناجية بن جندب، وقيل: إنه البراء بن عازب، وقيل: عبادة بن خالد، وفي البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنهما أنه ص جلس على البئر ثم دعا بإناء فمضمض ودعا ثم صبه فيها، ثم قال: «دعوها ساعة» فأرووا أنفسهم وركابهم حتى ارتحلوا، وفي حديث جابر عن البخاري ومسلم قال: عطش الناس يوم الحديبية وبين يدي رسول الله ص ركوة يتوضأ منها فأقبل الناس نحوه فقال: «ما بالكم؟» قالوا: يا رسول الله ليس عندنا ما نتوضأ به ولا نشرب إلاّ ما في ركوتك، فوضع يده في الرّكوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون، فشربنا وتوضأنا، وهذه من معجزات رسول الله، وجمع ابن حيان بينهما بأن ذلك وقع في وقتين، وكانت قصة الركوة قبل قصة البئر.
فلما اطمأن رسول الله ص أتاه بديل بن ورقاء الخزاعي في رجال من خزاعة فكلموه وسألوه ما الذي جاء به فأخبرهم أنه لم يأت يريد حربا وإنما جاء زائرا للبيت ومعظما لحرمته، ثم قال لهم نحوا مما قال لبشر بن سفيان، فرجعوا إلى قريش، فقالوا: يا معشر قريش إنكم تعجلون على محمد إن محمدا لم يأت لقتال، إنما جاء زائرا لهذا البيت، فاتهموهم وجبهوهم (أي قابلوهم بما يكرهون) وقالوا: وإن كان جاء ولا يريد قتالا فوالله لا يدخلها علينا عنوة أبدا ولا تحدث بذلك عنا العرب.
وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله ص مسلمها ومشركها لا يخفون عنه شيئا كان بمكة.
ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص أخا بني عامر فلما رآه رسول الله ص مقبلا، قال: «هذا رجل غادر» فلما انتهى إلى رسول الله ص وكلمه قال له رسول الله ص نحوا مما قال لبديل وأصحابه فرجع إلى قريش فأخبرهم بما قال له رسول الله ص
ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة وكان يومئذ سيد الأحابيش، فلما رآه رسول الله ص قال: «إن هذا من قوم يتألهون فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه»، فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محله، رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله ص إعظاما لما رأى، فقال لهم ذلك، فقالوا له: اجلس فإنما أنت أعرابي لا علم لك، فغضب الحليس عند ذلك وقال: يا معشر قريش والله ما على هذا حالفناكم ولا على هذا عاقدناكم، أيصد عن بيت الله من جاء معظما له، والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد، فقالوا له: كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.
ثم بعثوا إلى رسول الله عروة بن مسعود الثقفي فقال: يا معشر قريش إني قد رأيت ما يلقى منكم من بعثتموه إلى محمد إذا جاءكم من التعنيف وسوء اللفظ وقد عرفتم أنكم والد وأني ولد وكان عروة لسبيعة بنت عبد شمس وقد سمعت بالذي نابكم فجمعت من أطاعني من قومي ثم جئتكم حتى آسيتكم بنفسي، قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم، فخرج حتى أتى رسول الله ص فجلس بين يديه ثم قال: يا محمد أجمعت أوشاب الناس ثم جئت بهم إلى بيضتك (أي أصلك وعشيرتك) لتفضها بهم؟ إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبدا (تكرر هذا الكلام فقد قاله «بشر بن سفيان») وأيم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا.
وكان أبو بكر الصديق جالسا خلف رسول الله ص فقال له: (امصص بَظْر اللات أنحن ننكشف عنه؟) يريد، وهل نحن ننهزم عنه أي نتخلى عنه.
فقول أبي بكر: «امصص بَظْر اللات» مبالغة في سب عروة فإنه أقام معبود عروة وهو صنمه مقام امرأة تحقيرا لمعبوده وعادة العرب الشتم بذلك، وقد ساء أبا بكر قولُ عروة إن أصحابه ص ينكشفون عنه غدا أي يفرون فقال له ما قال وأجابه بما فيه تحقير له ولمعبوده.