قال تعالى في سورة الأعراف: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِض عَنِ الْجَهِلِينَ} (الأعراف: 199)، العفو لغة، التجاوز عن الذنب وترك العقاب عليه، وأصله المحو والطمس، وكل من استحق عقوبة فتركتها فقد عفوت عنه، وعفا عن ذنبه عفوا: صفح، وقوله: خذ العفو، قيل: الفضل الذي يجيء بغير كلفة، والمعنى: إقبل الميسور من أخلاق الناس ولا تستقص عليهم، وفي حديث ابن الزبير: أمر الله نبيَّه أن يأخذ العفو من أخلاق الناس، قال: هو السهل الميَسَّر، أي أمره أن يحتمل أخلاقهم ويقبل منها ما سهل وتيسر ولا يستقصي عليهم، ويدخل في ذلك التساهل وعدم التشديد في كل ما يتعلق بالحقوق المالية، ويدخل فيه أيضا التخلق مع الناس بالخلق الطيب وترك الغلظة والفظاظة، كما قال تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159)، وأما ما لا يجوز دخول المساهلة والمسامحة فيه، فالحكم فيه أن يأمر بالمعروف، وقال أيضا: {وَأَعْرِض عَنِ الْجَهِلِينَ} (الأعراف: 199) وأمره الله تعالى أن يصل من قطعه ويعطي من حرمه ويعفو عمن ظلمه، وهذا مطابق لهذه الآية.
التواضع للمؤمنين

قال تعالى في سورة الحجر: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَكَ سَبْعًا مّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْءانَ الْعَظِيمَ لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} (الحجر: 87، 88).
السبع المثاني هي فاتحة الكتاب، وهو قول عمر وعلِيّ وابن مسعود وأبي هريرة والحسن وأبي العالية ومجاهد والضحاك وسعيد بن جبير وقتادة، ورُوِي أن النبي قرأ الفاتحة وقال: «هي السبع المثاني» رواه أبو هريرة.
قال ابن عباس: «لا تمدَّنَّ عينيك أي لا تتمنّى ما فضلنا به أحدا من متاع الدنيا»، ورُوِي أنه نظر إلى نعم بني المصطلق، وقيل: وافت من بعض البلاد سبع قوافل ليهود بني قريظة والنضر فيها أنواع من البز، أي الثياب والطيب والجواهر، وسائر الأمتعة، فقال المسلمون: لو كانت هذه الأموال لنا، لتقوّينا بها ولأنفقناها في سبيل الله تعالى، فقال الله تعالى لهم: لقد أعطيتكم سبع آيات هي خير من هذه القوافل السبع، والحاصل أن قوله: ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم، نهي له عن الالتفات إلى أموالهم، وقوله: ولا تحزن عليهم، نهي له عن الالتفات إليهم، ثم قال: واخفض جناحك للمؤمنين، الخفض معناه في اللغة نفيض الرفع، وجناح الإنسان: يده، وخفض الجناح، كناية عن اللين والرفق والتواضع، والمقصود أنه تعالى لما نهاه عن الالتفات إلى أولئك الأغنياء من الكفار، أمره بالتواضع لفقراء المسلمين، ونظيره قوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَفِرِينَ} (المائدة: 54).
المجادلة بالحسنى

قال تعالى في سورة النحل: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَدِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} (النحل: 125)، أمر الله رسوله أن يدعو الناس بإحدى هذه الطرق الثلاث وهي: الحكمة، والموعظة الح سنة، والمجادلة بالطريق الأحسن.
] إيتاء ذي القربى والمساكين

قال تعالى في سورة الإسراء: {وَءاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْونَ الشَّيَطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَنُ لِرَبّهِ كَفُورًا} (الإسراء: 26، 27).
أمره الله تعالى أن يؤتي أقاربه الحقوق التي وجبت لهم في الفيء وأوجب عليه أيضا، إخراج حق المساكين وأبناء السبيل أيضا من هذين المثالين، والتبذير في اللغة، إفساد المال وإنفاقه في السرف إلا أنه لا سرف في الخير.
معاملة العدو

قال تعالى في سورة فصلت: {وَلاَ تَسْتَوِى الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ} (فصلت: 34)، يعني ادفع سفاهتهم وجهالتهم بالطريق الذي هو أحسن الطرق، فإنك إذا صبرت على سوء أخلاقهم مرة بعد مرة ولم تقابل سفاهتهم بالغضب ولا إضرارهم بالإيذاء والإيحاش، استحيوا من تلك الأخلاق المذمومة وتركوا تلك الأفعال القبيحة، ثم قال: فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم، يعني إذا قابلت إساءتهم بالإحسان وأفعالهم القبيحة بالأفعال الح سنة، تركوا أفعالهم القبيحة وانقلبوا من العداوة إلى المحبة ومن البغضاء إلى المودة.
الاقتصاد في الإنفاق

الاقتصاد وسط بين التقتير والتبذير وكل فضيلة وسط بين رذيلتين، قال الشاعر:
خير الأمور الوسط ** حب التناهي غلط
وقد ذمّ الله تعالى المقترين والبخلاء، وذم المبذرين، والناس إما مقتّرون أو مبذرون، وقليل منهم المقتصدون وترى البخيل يعلل بخله ويبرر تقتيره ويزعم أن الحكمة تقضي بالتقتير وادخار الأموال لإنفاقها في وقت العسر ويبقى هكذا مقترا طول حياته ويخشى أن ينفق حتى في أوقات العسر والشدة، كذلك يعلل المبذر تبذيره ويبرره فينفق أمواله في المحرمات والكماليات حتى يأتي عليها ويصبح فقيرا لا يجد قوت يومه، قال تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْونَ الشَّيَطِينِ} (الإسراء: 27)، وقال في حق الذين يكنزون المال: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّ كَثِيرا مّنَ الاْحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} (التوبة: 34، 35)، والسرف وإن كان ممقوتا مذموما إلا أنه لا سرف في الخير.
وقد أمرنا الله تعالى بمراعاة الاقتصاد في النفقة فإن ذلك سبيل السعادة، قال تعالى في سورة الإسراء: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورا إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَآء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} (الإسراء: 29، 30)، وقد شرح الله تعالى وصف عباده المؤمنين في الإنفاق في سورة الفرقان فقال: {وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاما} (الفرقان: 67)، فها هنا أمر رسوله بمثل ذلك الوصف فقال: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك، أي لا تمسك عن الإنفاق بحيث تضيق على نفسك وأهلك في وجوه صلة الرحم وسبيل الخيرات، والمعنى: لا تجعل يدك في انقباضها كالمغلولة الممنوعة من الانبساط ولا تبسطها كل البسط، أي ولا تتوسع في الإنفاق توسعة مفرطة بحيث لا يبقى في يدك شيء، ثم قال تعالى: فتقعد ملوما محسورا - أي يلوم نفسه، وأصحابه أيضا يلومونه على تضييع المال بالكلية وإبقاء الأهل والولد في الضر والمحنة.
هذا مثل من الأمثلة العديدة لتأديب الله تعالى لرسوله وقد ذكرنا الآيات التي وردت في هذا الصدد مع تفسيرها تفسيرا مجملا ليتعظ بها المسلمون وليعلموا عناية الله برسوله عليه الصلاة والسلام.