ما رفع إلينا موبذان موبذ

« رفع إلينا موبذان موبذ: أنّ قوما سمّاهم من ذوي الشرف - بعضهم بالباب كان شاهدا وبعضهم ببلاد أخر - دينهم مخالف لما ورثنا عن نبّينا وعلمائنا، وأنّهم يتكلّمون بدينهم سرّا ويدعون إليه الناس، وأنّ ذلك مفسدة للملك، حيث لا تقوم الرعيّة على هوى واحد: فيحرّمون جميعهم ما يحرّم الملك ويستحلّون ما يستحلّ الملك في دينه، فإنّ ذلك إذا اجتمع للملك، قوى جنده لأجل الموافقة بينهم وبين الملك، فاستظهر على قتال الأعداء.
فأحضرت أولئك المختلفين في الأهواء [ ثمّ أمرت ] أن يخاصموا حتى يقفوا على الحقّ ويقرّروا به، وأمرت أن يقصوا عن مدينتي وعن بلادي ومملكتي، وبتتبّع كلّ من هو على هواهم، فيفعل به ذلك. » وقال:
ما سألته الترك ومسيرنا إلى باب صول

« إنّ الترك الذين في ناحية الشمال، كتبوا إلينا بما قد أصابهم من الحاجة، وأنهم لا يجدون بدّا - إن لم نعطهم شيئا - من أن يغزونا، وسألوا خصالا، أحدها: أن نتّخذهم في جندنا ونجري عليهم ما يعيشون به، وأن نعطيهم من أرض الكنج وبلنجر وتلك الناحية، ما يتعيّشون منه. فرأيت أن أسير في ذلك الطريق إلى باب صول، وأحببت أن تعرف الملوك من قبلنا هناك نشاطنا للأسفار وقوّتنا عليها متى هممنا، وأن يروا ما رأوا من هيبة الملوك، وكثرة الجنود، وتمام العدّة، وكمال السلاح ما يقوون به على أعدائهم ويعرفون به قوّة من خلفهم إن هم احتاجوا إليه، وأحببنا - بمسيرنا - أن يجرى لهم على أيدينا الجوائز والحملان والقرب من المجلس واللطف في الكلام، ليزيدهم ذلك مودّة لنا، ورغبة فينا، وحرصا على قتال أعدائنا. وأحببت أيضا التعهّد لحصونهم، وأن أسأل أهل الخراج عن أمرهم في مسيرنا، فسرت في طريق همذان وآذربيجان. فلمّا بلغت باب الصول ومدينة فيروز خسره، رمّمت تلك المدائن العتيقة والحدود، وأمرت ببناء حصون أخر.
« فلمّا بلغ خاقان الخزر نزولنا هناك، تخوّف أن نغزوه. فكتب:
أنّه لم يزل - منذ ملكت - يحبّ موادعتى، وأنّه يرى الدخول في طاعتي سعادة، ورأى بعض قوّاده لما شاهد حاله تركه، فأتانا في ألفين من أصحابه، فقبلناه، وأنزلناه مع أساورتنا في تلك الناحية، وأجريت عليه وعلى أصحابه الرزق، وأمرت لهم بحصن هناك، وأمرت بمصلّى لأهل ديننا، وجعلت فيه موبذا وقوما نسّاكا، وأمرتهم أن يعلّموا من دخل في طاعتنا من الترك، ما في طاعة الولاة من المنفعة العاجلة في الدنيا، والثواب الآجل في الأخرى، وأن يحثّوهم على المودّة والصحّة والعدل والنصيحة ومجاهدة العدوّ، وأن يعلّموا أحداثهم رأينا ومذهبنا. وأقمت لهم في تلك التخوم الأسواق وأصلحت طرقهم، وقوّمت السكك، ونظرنا فيما اجتمع لنا هناك من الخيل والرجال، فإذا بحيث لو كان في وسط فارس، لكان منزلنا بها فاضلا. » قال:
تجديد النظر في أمر المملكة

« ولمّا أتى لملكنا ثمان وعشرون سنة جدّدت النظر في أمر المملكة والعدل على الرعية، والنظر في أمرهم وإحصاء مظالمهم وإنصافهم، وأمرت موبذ كلّ [ ثغر ] ومدينة وبلد وجند بإنهاء ذلك إليّ، وأمرت بعرض الجند من كان منهم بالباب، بمشهد مني، ومن غاب في الثغور والأطراف، بمشهد القائد وباذوسبان والقاضي وأمين من قبلنا، وأمرت بجمع أهل كور الخراج في كلّ ناحية من مملكتي إلى مصرها، مع القائد وقاضى البلد والكاتب والأمين، وسرّحت من قبلي من عرفت صحّته وأمانته ونسكه وعلمه، ومن جرّبت ذلك منه إلى كلّ مصر ومدينة، حيث أولئك [ الغلمان و ] العمال وأهل الأرض، ليجمعوا بينهم وبين أهل أرضيهم وبين وضيعهم وشريفهم، وأن يرفع الأمر كلّه على حقّه وصدقه: [ فما ] نفذ فيه لهم أمر - لو صحّ فيه القضاء ورضى به أهله - فرغوا منه هنالك، وما أشكل عليهم رفعوه إليّ. وبلغ اهتمامي بتفقّد ذلك ما لولا الذي أدارى من الأعداء والثغور، لباشرت أمر الخراج والرعيّة بنفسي قرية قرية، حتى أتعهّدها وأكلّم رجلا رجلا من أهل مملكتي، غير أنّى تخوّفت أن يضيع بذلك السبب أمر هو أعظم منه، والأمر الذي لا يغنى فيه غنائى ولا يقدر على إحكامه غيري، ولا يكفينيه كاف، مع الذي في الشخوص إلى قرية قرية، ومن المؤونة على الرعيّة من جندنا، ومن لا نجد بدّا من إشخاصه معنا. وكرهنا أيضا إشخاصهم إلينا، مع تخوّفنا أن يشغل أهل الخراج عن عمارة أرضيهم، أو يكون فيهم من يدخل عليه في ذلك مؤونة في تكلف السير إلى بابنا، وقد ضيّع قراه وأنهاره وما لا يجد بدّا من تعهّده في السنة كلّها في أوقات العمارة.
ففعلنا ذلك بهم، ووكّلنا موبذان موبذ وكتبنا به الكتب وسرّحنا من وثقنا به ورجونا أن يجرى مجرانا، وشخّصنا وقلّدناه ذلك. » قال:
جلوسنا مع أهل الكور للفحص عن الرعية وأمناء الخراج

« ولمّا آمن الله جميع أهل مملكتنا من الأعداء. فلم يبق منهم إلّا نحو من ألفى رجل من الديلم الذين عسر افتتاح حصنهم لصعوبة الجبال عليها، لم نجد شيئا أنفع لمملكتنا من أن نفحص من الرعيّة وأولئك الأمناء الذين وصّيناهم بإنصاف أهل الخراج، وكان بلغنا أنّ أولئك الأمناء لم يبالغوا على قدر رأينا في ذلك، فأمرت بالكتب إلى قاضى كورة كورة: أن يجمع أهل الكورة بغير علم عاملهم وأولى أمرهم، فيسألهم عن مظالمهم وما استخرج منهم، ويفحص عن ذلك بمجهود رأيه، ويبالغ فيه، ويكتب حال رجل رجل منهم، ويختم عليه بخاتمه وخاتم الرضا من أهل تلك الكورة، ويبعث به إليّ، ويسرّح ممن يجتمع رأى أهل الكورة عليه بالرضا نفرا، وإن أحبّوا أن يكون في من يشخص، بعض سفلتهم أيضا، فعل ذلك.
« فلمّا حضروا جلست للناس وأذنت بمشهد من عظماء أرضنا وملوكهم، وقضاتهم وأحرارهم وأشرافهم، ونظرت في تلك الكتب والمظالم. فأيّة مظلمة كانت من العمّال ومن وكلائنا، أو من وكلاء وكلائنا، ونسائنا، وأهل بيتنا، حططنا عنهم بغير بيّنة، لعلمنا بضعف أهل الخراج عنهم وظلم أهل القوّة من السلطان لهم، وأية مظلمة كانت لبعضهم من بعض ووضحت لنا، أمرت بإنصافهم قبل البراح، وما أشكل، أو وجب الفحص عنه، بشهود البلد وقاضيها، سرّحت معه أمينا من الكتّاب، وأمينا من فقهاء ديننا، وأمينا ممن وثقنا به من خدمنا وحاشيتنا، فأحكمت ذلك إحكاما وثيقا، ولم يجعل الله لذوي قرابتنا وخدمنا وحاشيتنا منزلة عندنا دون الحقّ والعدل، فإنّ من شأن قرابة الملك وحاشيته أن يستطيلوا بعزّة وقوّة. فإذا أهمل السلطان أمرهم هلك من حاوروه إلّا أن تكون فيهم متأدّب بأدب ملكه، محافظ على دينه، شفيق على رعيّته، وأولئك قليل. فدعانا الذي اطّلعنا عليه من ظلم أولئك، إلى أن لا نطلب البيّنة عليهم في ما ادّعى قبلهم، ولم نرد ظلم أحد ممن كان عزيزا بنا، ومنيعا بمكانه ومنزلته عندنا، فانّ الحق واسع للضعفاء والأقوياء، والفقراء والأغنياء، ولكنّا لمّا أشكلت الأمور في ذلك علينا، كان الحمل على خواصّنا وخدمنا، أحبّ إلينا من أن نحمل على ضعفاء الناس ومساكينهم وأهل الفاقة والحاجة منهم.
وعلمنا أنّ أولئك الضعفاء لا يقدرون على ظلم من حولنا وعلمنا مع ذلك أنّ [ الذين ] أعدينا عليهم من خاصّتنا يرجعون من نعمتنا وكرامتنا إلى ما لا يرجع إليه أولئك الضغفاء.
ولعمري، إنّ أحبّ خواصّنا إلينا، وأبرّ خدمنا في أنفسنا، الذين يحفظون سيرتنا في الرعيّة، ويرحمون أهل الفاقة والمسكنة، وينصفونهم، فإنّه قد ظلمنا من ظلمهم، وجار علينا من جار عليهم، وأراد تعطيل ذمّتنا التي هي حرزهم وملجأهم. » قال:
ما كتبه إلينا أربعة أصناف من ترك الخزر

« ثم كتب إلينا على رأس سبع وثلاثين سنة من ملكنا أربعة أصناف من الترك من ناحية الخزر، ولكلّ صنف منهم ملك، يذكرون ما دخل عليهم من الحاجة، وما لهم من الحظّ في عبودتنا، وسألوا أن نأذن لهم في القدوم بأصحابهم لخدمتنا والعمل بما نأمرهم به، ولا نحقد عليهم ما سلف منهم قبل ملكنا، وأن ننزلهم منزلة سائر عبيدنا، فإنّا سنرى في كلّ ما نأمرهم به من قتال وغيره، كأفضل ما نرى من أهل نصيحتنا.
« فرأيت في قبولي إيّاهم عدّة منافع، منها: جلدهم وبأسهم، ومنها: أنّى تخوّفت أن تحملهم الحاجة على إتيان قيصر أو بعض الملوك فيقووا بهم علينا. وقد كان في ما سلف يستأجر قيصر منهم لقتال ملوك ناحيتنا بأغلى الأجرة، فكان لهم في ذلك القتال بعض الشوكة بسبب أولئك الأتراك، ولأنّ الترك ليس عندهم لذّة الحياة، فهو الذي يجرّيهم مع شقاء معيشتهم على الموت.
فكتبت إليهم: أنّا نقبل من دخل في طاعتنا ولا نبخل على أحد بما عندنا. وكتبت إلى مرزبان الباب آمره أن يدخلهم أوّلا فأولا.
« فكتب إليّ أنّه: قد أتاه منهم خمسون ألفا بنسائهم وأولادهم وعيالاتهم، وأتاه من رؤسائهم ثلاثة آلاف بأهل بيتهم ونسائهم وأولادهم وعيالاتهم.
« ولمّا بلغني ذلك أحببت أن أقرّبهم إليّ، ليعرفوا إحسانى إليهم في ما أكرمهم به وأعطيهم، وليطمئنّوا إلى قوّادنا حتى إذا أردنا تسريحهم مع بعض قوّادنا، كان كلّ واحد بصاحبه واثقا. فشخصت إلى آذربيجان. فلما نزلت آذربيجان أذنت لهم في القدوم، وأتانى عند ذلك طرائف من هدايا قيصر، وأتانى رسول خاقان الأكبر ورسول صاحب خوارزم، ورسول ملك الهند، والداور، وكابل شاه، وصاحب سرنديب، وصاحب كله، وكثير من الرسل، وتسعة وعشرون ملكا في يوم واحد، وانتهيت إلى أولئك الأتراك الثلاثة والخمسين الألف، فأمرت أن يصفّفوا هناك، وركبت لذلك، فكان يومئذ من أصحابي، ومن قدم عليّ، ومن دخل في طاعتي وعبودتى، من لم يسعهم مرج كان طوله نحو عشرة فراسخ.
فحمدت الله كثيرا، وأمرت أن يصنّف أولئك الأتراك في أهل بيوتاتهم على سبع مراتب ورأّست عليهم منهم، وأقطعتهم، وكسوت أصحابهم، وأجريت عليهم الأرزاق، وأمرت لهم بالمياه والأرضين، وأسكنت بعضهم مع قائد لي ببرجان، وبعضهم مع قائد لي باللّان، وبعضهم بآذربيجان، وقسمتهم في كلّ ما احتجنا إليه من الثغور، وضممتهم إلى المرزبان. فلم أزل أرى من مناصحتهم واجتهادهم في ما نوجههم له، ما يسرّنا في جميع المدائن والثغور وغيرها. »