ذكر سوء سياسة اتفق على أبرويز في جنده حتى ظهر الروم عليه

لم يزل أبرويز يلاطف ملك الروم. الذي كان نصره، ويهاديه، إلى أن وثبت الروم عليه في شيء أنكروه منه، فقتلوه وملّكوا غيره. فبلغ ذلك أبرويز، فامتعض، وأخذته الحفيظة، فآوى ابن الملك المقتول اللاجئ إليه، وتوّجه، وملّكه على الروم، ووجّه معه جنودا كثيفة مع شهر براز، فدوّخ بهم البلاد، وملك صاحب كسرى بيت المقدس، وأخذ خشبة الصليب، وبعث بها إلى كسرى في أربع وعشرين سنة من ملكه. ثم احتوى على مصر، والإسكندرية، وبلاد نوبة، وبعث مفاتيح مدينة الإسكندرية إلى كسرى في سنة ثمان وعشرين من ملكه. وقصد قسطنطينية، فأناخ على ضفّة الخليج القريب منها، وخيّم هناك. فأمر كسرى فخرّب بلاد الروم، غضبا مما انتهكوا من ملكهم وانتقاما له، ولم يخضع لابن ملكهم المقتول أحد، ولا منحوا الطاعة، غير أنّهم قتلوا الملك الذي ملّكوه بعد أبيه المسمّى فوقا لما ظهر من فجوره وسوء تدبيره، وملّكوا عليهم رجلا يقال له: هرقل. فلمّا رأى هرقل عظيم ما فيه بلاد الروم من تخريب جنود فارس إيّاها، وقتلهم مقاتلتهم، وسبيهم ذراريّهم، واستباحتهم أموالهم، تضرّع إلى الله، وأكثر الدعاء والإبتهال.
فيقال: إنّه رأى في منامه رجلا ضخم الجثّة رفيع المجلس، عليه [ بزّة، قائما في ناحية عنه ]، فدخل عليهما داخل، فألقى ذلك الرجل عن مجلسه وقال لهرقل:
« إني قد سلّمته في يدك. » فلم يقصص رؤياه تلك في يقظته على أحد حتى توالت عليه أمثاله. فرأى بعض لياليه: كأنّ رجلا دخل عليهما وبيده سلسلة طويلة، فألقاها في عنق صاحبه، أعنى صاحب المجلس الرفيع عليه، ثم دفعه إليه وقال له:
« ها قد دفعت إليك كسرى برمّته. » فلمّا تتابعت هذه الأحلام، قصّها على عظماء الروم وذوي العلم منهم، فأشاروا عليه أن يغزوه. فاستعدّ هرقل، واستخلف ابنه على مدينة قسطنطينية، وأخذ عن الطريق الذي فيه شهريار صاحب كسرى، وسار حتى وغل في بلاد أرمينية، ونزل نصيبين سنة، وقد كان صاحب ذلك الثغر من قبل كسرى قد استدعى لموجدة كانت من كسرى عليه. وأمّا شهربراز فقد كانت كتب كسرى ترد عليه في الجثوم على الموضع الذي هو به [ وترك البراح منه ]. ثم بلغ كسرى تساقط هرقل في جنوده إلى نصيبين. فوجّه لمحاربة هرقل رجلا من قوّاده يقال له: راهزاذ، في اثنى عشر ألف رجل من الأنجاد، وأمره أن يقيم بنينوى - وهي التي تدعى الآن الموصل - على شاطئ دجلة، ويمنع الروم أن يجوزوها.
وكان كسرى بلغه خبر هرقل، وأنّه مغذّ، وهو يومئذ مقيم بدسكرة الملك. فنفذ راهزاذ لأمر كسرى، وعسكر حيث أمره. فقطع هرقل دجلة في موضع آخر، إلى الناحية التي كان فيها جند فارس. فأذكى راهزاذ العيون عليه، فانصرفوا إليه، فأخبروه أنّه في سبعين ألف مقاتل، فأيقن راهزاذ ومن معه من الجند، أنّهم عاجزون عن مناهضته. فكتب إلى كسرى غير مرّة دهم هرقل إياه بمن لا طاقة له ولمن معه بهم، لكثرتهم وحسن عدّتهم. كل ذلك يجيبه كسرى بأنّه إن عجز عن الروم فلن يعجز عن استقتالهم وبذل دمائهم في طاعته.
فلمّا تتابعت على راهزاذ جوابات كسرى بذلك، عبّى جنده وناهض الروم بهم. فقتلت الروم راهزاذ وستة آلاف رجل، وانهزمت بقيّتهم وهربوا على وجوههم. وبلغ كسرى قتل الروم راهزاذ وما نال هرقل من الظفر، فهدّه ذلك، وانحاز من دسكرة الملك إلى المدائن، وتحصّن بها لعجزه كان عن محاربة هرقل، وسار هرقل حتى كان قريبا من المدائن. فلما تساقط إلى كسرى خبره واستعدّ لقتاله انصرف إلى أرض الروم. وكتب كسرى إلى قوّاد الجند الذين انهزموا، يأمرهم أن يدلّوه على كلّ رجل منهم ومن أصحابه، ممن فشل في تلك الحرب ولم يرابط مركزه فيها، فأمر بأن يعاقب بحسب ما استوجب. فأحوجهم بهذا الكتاب إلى الخلاف عليه وطلب الحيل لنجاة أنفسهم منه. وكتب إلى شهربراز يأمره بالقدوم عليه ويستعجله في ذلك، ويصف له ما نال هرقل منه ومن بلاده.
وقد حكى: أنّ كسرى عرف امرأة في فارس لا تلد إلّا الملوك الأبطال، فدعاها وقال:
« إني أريد أن أبعث إلى الروم جيشا، وأستعمل عليهم رجلا من بنيك، فأشيرى عليّ: أيّهم أستعمل؟ » فوصفت أولادها فقالت:
« هذا فرّخان أنفذ من سنان، وهذا شهربراز أحكم من كذا، وهذا فلان أروغ من كذا. » فاستعمل شهربراز. فسار إلى الروم، فظهر عليهم وهزمهم وخرّب مدائنهم.
فلمّا ظهرت فارس على الروم، جلس فرّخان يشرب، فقال لأصحابه:
« لقد رأيت كأنى جالس على سرير كسرى. » فبلغت كسرى، وكتب إلى شهربراز:
« إذا أتاك كتابي هذا، فابعث إليّ برأس فرّخان. » فكتب إليه:
« أيّها الملك، إنّك لن تجد مثل فرّخان، فانّ له نكاية في العدوّ وصوتا، فلا تفعل. » فكتب إليه:
« إنّ في رجال فارس خلفا منه، فعجّل عليّ برأسه. » فراجعه، فغضب كسرى ولم يجبه، وبعث بريدا إلى أهل فارس:
« إني قد نزعت عنكم شهربراز، واستعملت عليكم فرّخان. » ثم دفع إلى البريد صحيفة صغيرة وقال:
« إذا ولى فرّخان الملك، وانقاد له أخوه، فأعطه. » فلما قرأ شهر براز الكتاب قال:
« سمعا وطاعة. » ونزل عن السرير، وجلس فرّخان، ودفع الصحيفة إليه، فقال:
« ايتوني بشهربراز. » فقدّمه ليضرب عنقه، فقال:
« لا تعجل، حتى أكتب وصيتي. » قال: « افعل! » فدعا بسفط وأعطاه ثلاث صحائف، وقال:
« كلّ هذا راجعت فيك كسرى وأنت أردت أن تقتلني بكتاب واحد! » فردّ الملك على أخيه.
فكتب شهربراز إلى قيصر ملك الروم:
« إنّ لي حاجة لا تحملها البرد ولا تبلّغها الصحف. فالقنى، ولا تلقني إلّا في خمسين روميا، فإني أيضا ألقاك في خمسين فارسيا. » فأقبل قيصر في خمسمائة روميّ، وجعل يضع العيون بين يديه في الطريق، وخاف أن يكون قد مكر به حتى أتاه عيونه أنه: ليس معه إلّا خمسون رجلا. ثم بسط لهما، والتقيا في قبّة ديباج ضربت لهما، واجتمعا ومع كلّ واحد منهما سكّين، ودعوا ترجمانا بينهما.