كسرى يدعو النعمان وهو يحمل السلاح

وشاع هذا الكلام، فبلغ النعمان وسكت كسرى على ذلك أشهرا، وجعل النعمان يستعدّ ويتوقّع حتى أتاه كتابه أن:
« أقبل، فإنّ للملك إليك حاجة. » فانطلق حين أتاه كتابه، فحمل سلاحه وما قوى عليه، ثم لحق بجبلي طيّء، وكانت عنده فرعة بنت سعد بن حارثة بن لأم وقد ولدت له رجلا وكانت عنده أيضا زينب بنت أوس بن حارثة. فأراد النعمان طيّئا على أن يدخلوه ويمنعوه، فأبوا ذلك وقالوا:
« لولا صهرك لقاتلناك، فإنّه لا حاجة لنا في معاداة كسرى. » فأقبل ليس أحد من الناس يقبله، حتى نزل بذي قار، في بنى شيبان سرّا، فلقى هانئ بن قبيصة بن هانئ بن مسعود، وكان سيّدا منيعا، وكان كسرى قد أطعم قيس بن مسعود الأبلّة. فكره النعمان لذلك أن يدفع إليه أهله، وعلم أنّ هانئا مانعه ممّا يمنع منه نفسه، فأودعه سلاحه، وتوجّه بنفسه إلى كسرى، فلقى زيد بن عديّ على قنطرة ساباط.
فقال: « انج نعيم! » فقال: « أنت يا زيد فعلت هذا، أما والله لئن انفلتّ لأفعلنّ بك ولأصنعنّ. » فقال له زيد: « امض نعيم! فقد - والله - وضعت لك عنده آخيّة لا يقلعها المهر الأرن.
فلما بلغ كسرى أنه بالباب، بعث إليه، فقيّده، وأنفذه إلى خانقين، فلم يزل في السجن حتى وقع الطاعون، فمات فيه، والناس يظنّون أنّه مات بساباط، لبيت قاله الأعشى. والصحيح ما قلناه.
إياس وما أدى إلى يوم ذي قار

وأمر كسرى إياس بن قبيصة الطائي أن يضمّ ما كان النعمان ينظر فيه، ويجمع ماله ويبعث به إليه. فبعث إياس إلى هانئ أن:
« أرسل ما استودعك النعمان من السلاح وغيره. » وكان ثمانمائة درع. فأبى هانئ أن يسلّم خفارته.
فلمّا منعها هانئ غضب كسرى، وأظهر أنّه يستأصل بكر بن وائل وعنده يومئذ النعمان بن زرعة التغلبي - وهو يحبّ هلاك بكر بن وائل - فقال لكسرى:
« يا خير الملوك، أدلّك على غرّة بكر بن وائل؟ » قال: « نعم. » قال: « أمهلها حتى تقيظ، فإنّهم يجتمعون إلى مآلهم يقال له: ذو قار، فيتساقطون عليه تساقط الفراش في النار، فتأخذهم كيف شئت، وأنا أكفيكهم. » فترجم له، فأقرّهم، حتى إذا قاظوا جاءت بكر بن وائل، فنزلت حنو ذي قار، وهو على ليلة من ذي قار. فأرسل إليهم كسرى النعمان بن زرعة أن: اختاروا واحدا من ثلاث خصال. فنزل النعمان على هانئ وقال:
« أنا رسول الملك إليكم، أخيّركم في ثلاث خصال: إمّا أن تعطوا بأيديكم فيحكم الملك فيكم بما شاء، وإمّا أن تدعوا الديار، وإمّا أن تأذنوا بحرب. » فتآمروا، فولّوا أمورهم حنظلة بن ثعلبة بن سيّار العجلى، وكانوا يتيمّنون به، فقال:
« لا أرى إلّا القتال، لأنّكم إن أعطيتم بأيديكم، قتلتم، وسبيت ذراريكم، وإن هربتم قتلكم العطش، وتلقّاكم تميم فتهلككم، فآذنوا الملك بحرب. » فبعث الملك كسرى إلى إياس، وإلى الهامرز التستري، وكان مسلحه بالقطقطانية وإلى جلابزين وكان مسلحه ببارق. وكتب إلى قيس بن مسعود بن قيس بن خالد بن ذي الجدّين - وكان كسرى استعمله على طفّ سفوان - أن يوافوا إياسا، فإذا اجتمعوا، فإياس على الناس. وجاءت الفرس ومعها الجنود والفيول عليها الأساورة، وقد بعث النبي .
فقال :
« اليوم انتصفت العرب من العجم. » فحفظ ذلك اليوم، فإذا هو يوم الوقعة.
رأي جيد رآه قيس بن مسعود لهانئ

لمّا دنت جيوش الفرس بمن معهم انسلّ قيس بن مسعود ليلا، فأتى هانئا فقال:
« أعط قومك سلاح النعمان فيقووا، فإن هلكوا كان تبعا لنفوسهم وكنت قد أخذت بالحزم، وإن ظفروا ردّوه عليك. » ففعل، وقسم الدروع والسلاح في ذوي القوى والجلد من قومه، فلمّا دنا الجمع من بكر بن وائل، قال لهم هانئ:
« يا معشر بكر، إنّه لا طاقة لكم بجنود كسرى ومن معهم من العرب، فاركبوا الفلاة. » فتسارع الناس إلى ذلك، فوثب حنظلة بن ثعلبة بن سيّار. فقال:
« إنّما أراد نجاتنا، فلم يزد على أن ألقانا في الهلكة. » فردّ الناس، وقطع وضن الهوادج لئلّا تستطيع بكر أن تسوق نساءها إن هربوا، فسمّى: « مقطّع الوضن. » فضرب حنظلة على نفسه قبّة ببطحاء ذي قار، وآلى: لا يفرّ حتى تفرّ القبّة.
فمضى من مضى من الناس ورجع أكثرهم، واستقرى ماء لنصف شهر. فأتتهم العجم، فقاتلتهم بالحنو، فجزعت العجم من العطش، ولم تقم لمحاصرتهم فهربت إلى الجبابات فتبعتهم بكر وعجل أوائل بكر، فتقدّمت عجل، وأبلت يومئذ بلاء حسنا، واضطمّت عليهم جنود العجم، فقال الناس: هلكت عجل. ثم حملت بكر، فوجدت عجلا ثابتة تقاتل، وامرأة تقول: