اتفاق جيد

فكان من الاتّفاق الجيّد أن أرسل بعد ذلك أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى بنى قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان. فقال لهم: « إنّا لسنا بدار مقام، وقد هلك الخفّ والحافر، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا ونفرغ ممّا بيننا وبينه. »
فأرسلوا إليه: « إنّ اليوم السبت - وكان اتّفق ذلك - وهو يوم لا نعمل فيه شيئا، ومع ذلك فلسنا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمدا، فإنّا نخشى - إن ضرستكم الحرب واشتدّ عليكم القتال - أن تشمّروا إلى بلادكم، وتتركونا والرجل في بلدنا، ولا طاقة لنا بذلك من محمد. » فلمّا رجعت الرسل بالذي قالت بنو قريظة، قالت قريش وغطفان: « والله إنّ الذي حدّثكم نعيم بن مسعود لحقّ. » فأرسلوا إلى بن قريظة: « إنّا والله ما ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا. فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا. »
فقالت بنو قريظة حين أدّت إليهم الرسل: « إنّ الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحقّ. ما يريد القوم إلّا أن يقاتلوا. فإن وجدوا فرصة انتهزوها، وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم، وخلّوا بينكم وبين الرجل. »
فأرسلوا إلى القوم: « إنّا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا. » وتخاذل القوم. واتّهم بعضهم بعضا، وذلك في زمن شات وليال باردة كثيرة الرياح تطرح أبنيتهم، وتكفأ قدورهم. وضاق ذرع القوم وبلغ رسول الله اختلاف القوم وما هم فيه من الجهد. فدعا حذيفة بن اليمان، فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلا. فذهب حذيفة بن اليمان، حتى دخل في القوم. قال حذيفة: فذهبت فرأيت من الرياح أمرا هائلا لا يقرّ لهم نارا ولا بناء.
فقام أبو سفيان ابن حرب، فقال: « يا معشر قريش، لينظر امرؤ جليسه. » قال: فبادرت وأخذت بيد الرجل الذي إلى جانبي، فقلت: « من أنت؟ » قال: « أنا فلان بن فلان. » ثم قال أبو سفيان: « إنكم يا قوم ما أصبحتم بدار مقام. لقد هلك الكراع والخفّ، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم ما نكره، ولقينا من الجهد والشدّة وهذه الريح ما ترون. فارتحلوا، فإني مرتحل. » ثم قام إلى جمله، وقام الناس معه. وسمعت غطفان بما فعلت قريش، فانصرفوا إلى بلادهم، وتفرّق ذلك الجمع من غير قتال، إلّا ما كان من عدّة يسيرة اتّفقوا على الهجوم على الخندق، يحكى أن فيهم عمرو بن عبد ودّ، فقتلوا. أما عمرو فقتله عليّ بن أبي طالب مبارزة لما اقتحم عليه الخندق. وانتقض ذلك الجمع والتدبير كلّه.
ومن ذلك ما كان يوم حنين وفيه ذكر لدريد بن الصّمّة وبعض آرائه
ومن ذلك أنّه لما افتتح رسول الله مكّة، وأقام خمسة عشر يوما، جاءت هوازن وثقيف لمحاربته، فنزلوا بحنين. وذاك أنّهم كانوا قبل ذلك قد جمعوا له حين سمعوا بمخرجه من المدينة، وظنّوا أنه يريدهم. فلمّا قصد مكّة أقبلوا عامدين إليه، ومعهم الأموال والنساء والصبيان، ورئيس هوازن يومئذ مالك بن عوف. وأقبلت معهم ثقيف، ونصر، وجشم. ولم يشهد معهم من هوازن كعب ولا كلاب. وفي جشم دريد بن الصمّة [ وهو ] شيخ كبير، لا شيء فيه إلّا أنّهم يتيمّنون برأيه ومعرفته بالحرب ودربته بها.
فلما نزل بأوطاس، اجتمع الناس إلى رئيسهم مالك بن عوف وفيهم دريد بن الصمّة يقاد به وهو في شجار له. فقال: « بأيّ واد أنتم؟ » قالوا: « بأوطاس. » قال: « نعم، مجال الخيل، لا حزن ضرس، ولا سهل دهس. ما لي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، ويعار الشاء، وبكاء الصغير؟ » فقالوا له: « ساق مالك بن عوف مع الناس أبناءهم، ونساءهم، وأموالهم. » فقال: « أين مالك؟ » فدعى له، فقال: « يا مالك، إنّك قد أصبحت رئيس قومك، وإنّ هذا يوم له ما بعده من الأيام، ما لي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار الشاء؟ » قال: « سقت مع الناس أبناءهم، ونساءهم، وأموالهم. » قال: « ولم؟ » قال: « أردت أن أجعل خلف كلّ رجل أهله وولده وماله، ليقاتل عنهم. » قال: فأنقض به. ثم قال: « راعى ضأن والله. ويحك! هل يردّ المنهرم شيء؟ إنّها إن كانت لك، لم ينفعك إلّا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك، فضحت في أهلك ومالك. ما فعلت كعب وكلاب؟ » قالوا: « لم يشهدها منهم أحد. » قال: « غاب الجدّ والحدّ، لو كان يوم علاء ورفعة لم تغب عنه كعب ولا كلاب. فمن شهدها منكم؟ »
قالوا: « عمرو بن عامر، وعوف بن عامر. » قال: « [ ذانك ] الجذعان من بنى عامر لا ينفعان ولا يضرّان. يا مالك إنّك لن تصنع بتقديم البيضة، بيضة هوازن، إلى نحور الخيل شيئا، ارفعهم إلى متمنع بلادهم وعليا قومهم، ثم الق هؤلاء الصبّاء على متون الخيل، فإن كانت لك، لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك قد أحرزت أهلك ومالك. » قال: [ والله لا أفعل ذلك، إنّك قد كبرت وكبر علمك ]، والله لتطيعنّى يا معشر هوازن، أو لأتّكئنّ على سيفي هذا حتى يخرج من ظهري ».
وكره أن يكون فيها لدريد ذكر ورأي.
فقال دريد: « هذا يوم لم أشهده ولم يفتني. »
يا ليتني فيها جذع ** أخبّ فيها وأضع
أقود وطفاء الزّمع ** كأنّها شاة صدع
وكان دريد رئيس قومه بنى جشم وسيّدهم وأوسطهم مع شجاعته ودربته وتجاربه، ولكن السنّ أدركته حتى فنى.
ثم قال مالك للناس: « إذا رأيتم القوم فاكسروا جفون سيوفكم، وشدّوا شدّة رجل واحد عليهم. » فلمّا استقبل خيل رسول الله - وكان يومئذ اثنى عشر ألفا، منهم عشرة آلاف فتحوا مكة، وألفان ممن أسلم وانضاف إليهم بوادي حنين - انحدروا في واد من أودية تهامة أجوف، إنّما ينحدرون فيه انحدارا، وذلك في عماية من الصبح، وكان القوم قد سبقوا إلى الوادي، فكمنوا في شعابه وأحنائه ومضايقه، وتهيّئوا وأعدّوا. فما راع خيل رسول الله وهم منحطّون، إلّا الكتائب، قد شدّت عليهم، فانشمروا لا يلوى أحد على أحد.
وانحاز رسول الله ذات اليمين وصاح: « أيّها الناس، أين؟ هلمّوا إليّ، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله. » وبقي مع النبي نفر من أهل بيته، فيهم عليّ بن أبي طالب، والعباس، وابنه الفضل، وجماعة من المهاجرين.
فقال رسول الله للعباس: « اصرخ: يا معشر الأنصار، يا أصحاب السمرة. » فأجابوه من كل ناحية وحملوا على الناس فكانت إيّاها. وقتل عليّ بن أبي طالب صاحب الراية، وقتل خيل مالك بن عوف كلّ مقتلة، وغنم المسلمون تلك الأموال، وسبوا النساء والأولاد، وقتل دريد. وكان عدّة السبي يومئذ من هوازن ستّة آلاف من النساء والأولاد.