وكتب إلى جميع المرتدّة كتبا بليغة بالإعذار والإنذار والترغيب والترهيب، ونفذت الرسل أمام الجنود بالكتب ونفذ خالد إلى طليحة، فهزمه وفضّ خيله.
وكان طليحة ارتدّ في حياة رسول الله وادعى النبوّة. فوجه النبي ضرار بن الأزور عاملا على بنى أسد وأمرهم بالقيام في ذلك على كلّ من ارتدّ فأشجوا طليحة وأخافوا ونقص أمره، حتى لم يبق إلّا أخذه سلما. سوى أنّه كان ضرب ضربة بالجراز، فنبا عنه. فشاعت في الناس وأتى المسلمين - وهم على ذلك - موت نبيهم. وقال ناس: « إنّ السلاح لا يعمل في طليحة. » فقوي أمره ونقص أمر المسلمين لذلك، حتى إنّهم قالوا عرفنا ذلك في أنفسنا يوم ورد علينا الخبر بوفاة رسول الله .
وقام عيينة بن حصين بنصره، وقام في غطفان فقال: « ما أعرف حدود غطفان منذ انقطع ما بيننا وبين بنى أسد، وإني مجدّد الحلف الذي كان بيننا في الجاهلية، ومتابع طليحة، والله لأن نتبع نبيا من الحليفين أحبّ إلينا من أن نتبع نبيا من قريش. » وقد مات رسول الله وبقي طليحة، فطابقوه على رأيه. فلمّا قوى أمر طليحة واستفحل، هرب ضرار وأصحاب النبي وطاروا كلّ مطار.
قال ضرار بن الأزور: « فما رأيت أحدا - ليس رسول الله - أملأ لحرب شعواء من أبي بكر، لجعلنا نخبره ولكأنّما نخبره بما له، لا عليه. »
صرامة عمر وحصافته في هذا الوقت

ومما ظهر من عمر - رضي الله عنه - في هذا الوقت صرامة وحصافة: أنّ عمرو بن العاص كان بعمان. فلمّا مات رسول الله أقبل حتى انتهى إلى البحرين، وسار في بنى تميم، وفي بنى عامر، حتى قدم المدينة، فأطافت به قريش وسألوه. فأخبرهم أنّ العساكر معسكرة من دبا إلى حيث انتهيت إليكم. وأخبرهم من اضطراب الإسلام وقوّة الأعداء ما كسرهم. فتفرّقوا وتحلّقوا حلقا. وأقبل عمر بن الخطاب يريد التسليم على عمرو. فمرّ بحلقة وهم في شيء مما سمعوا من عمرو، وفي تلك الحلقة عثمان وعليّ وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد. فلمّا دنا عمر منهم سكتوا.
فقال عمر: « فيم أنتم؟ » فلم يخبروه، فقال: « ما أعلمني بالذي خلوتم له. » فغضب طلحة وقال: « يا ابن الخطاب أتخبرنا بالغيب؟ » فقال: « لا يعلم الغيب إلّا الله، ولكن أظنّ أنكم قلتم: ما أخوفنا على قريش، من العرب وأخلقهم ألّا يقرّوا بهذا الأمر. » قالوا: « صدقت. » قال: « فلا تخافوا هذه المنزلة. أنا والله منكم على العرب أخوف مني عليكم من العرب، والله لو تدخلون معاشر قريش جحرا لدخلته العرب في آثاركم. فاتقوا الله فيهم. » ثم مضى عمر إلى أبي بكر واجتمع مع عمرو.
إسلام طليحة بعد ارتداده وادعائه النبوة

فأمّا طليحة، فإنّه لما هزم أصحابه، هرب حتى نزل على كعب على النقع.
فأسلم، ولم يزل مقيما في كلب حتى مات أبو بكر. وإنّما أسلم هنالك حتى بلغه أنّ أسدا وغطفان وعامرا قد أسلموا. فلمّا مات أبو بكر، أتى عمر للبيعة، فقال له عمر: « أنت قاتل عكاشة وثابت، والله لا أحبّك أبدا. » فقال يا أمير المؤمنين، ما تنقم عليّ من رجلين أكرمهما الله بيدي ولم يهنّى بأيديهما. » فبايعه عمر. ثم قال له خريم: « ما بقي من كهانتك؟ » قال: « نفخة أو نفختان بالكير. » ثم رجع إلى دار قومه، وأقام بها حتى خرج إلى العراق.
ولما أعطى أهل بزاخة من أسد وغطفان وطيئ بأيديهم على الإسلام، لم يقبل خالد من أحد منهم ولا من هوازن وسليم، إلّا على أن يأتوا بالذين حرقوا ومثّلوا وعدوا على أهل الإسلام في حال ردّتهم. فأتوه بهم، فقتل منهم إلّا قرّة بن هبيرة ونفرا معه أو ثقتهم، ومثّل بالذين مثّلوا بالمسلمين، وأحرقهم بالنيران، ورضخهم بالحجارة، ورمى بهم من الجبال، ونكّسهم في الآبار، وخرق بعضهم بالنبال، وكتب بخبرهم وما صنع، إلى أبي بكر.
فكتب إليه أبو بكر:
« ليزدك الله ما أنعم به عليك خيرا، فاتق الله، ولا تظفرنّ بأحد قتل المسلمين إلّا قتلته ونكلت به غيره، وإن كنت أحييت ممّن حادّ الله وضادّه فاقتله. » فأقام خالد شهرا على بزاخة يصعّد ويصوّب ويرجع في طلب القوم، فمنهم من يحرق، ومنهم من يرضخه، ومنهم من يرمى به من الجبل.
مكيدة للفجاءة تمت عليه

وقدم الفجاءة بن إياس بن عبد ياليل على أبي بكر، فقال:
« أعنّى بسلاح، ومرني بما شئت، ومن شئت من أهل البادية. » فأعطاه سلاحا، وأمَره أمْره، فخالفه، وخرج، ونزل الجواء، وبعث نجبة بن أبي الميثاء، وأمره بالمسلمين، فشنّها غارة على كلّ مسلم في سليم وهوازن، وبلغ ذلك أبا بكر، فأرسل إليه من حاربه بالجواء حربا شديدا، فقتل نجبة، وهرب الفجاءة، فلحقه من أسره وبعث به إلى أبي بكر، فأوقد له في مصلّى المدينة حطب كثير، ثم رمى به في النار مقموطا.