المثنى بن الحارثة وشهربراز قائد الفرس

فأمّا المثنى بن حارثة، فكان من حديثه بعد خالد بن الوليد: أنّ الفرس اجتمعوا على شهربراز بن أردشير بن شهريار بن أبرويز، ووجدوه بميسان، فوجّه إلى المثنّى جندا عظيما عليهم هرمز المعروف بجاذويه في عشرة آلاف، ومعه فيل، فكتبت المسالح بإقباله، فخرج المثنى من الحيرة، وضمّ إليه المسالح.
وكتب شهربراز إلى المثنّى:
« إنّي قد بعثت إليك جندا من وحش أهل القرى، إنّما هم رعاة الدجاج والخنازير، ولست أقابلك إلّا بهم. » فأجابه المثنّى: « من المثنّى إلى شهربراز، إنّما أنت أحد الرجلين: إما باغ، فذلك شرّ لك وخير لنا، وإمّا كاذب، فأعظم الكاذبين فضيحة وعقوبة عند الله والناس الملوك، وأمّا الذي يدلّنا عليه الرأي، فانّكم إنّما اضطررتم إليه، فالحمد لله الذي ردّ كيدكم إلى رعاة الدجاج والخنازير. » فلمّا وقف الفرس على كتابه جزعوا وقالوا: « إنّما أتى شهربراز من لؤم منشأته. » وقالوا له: « جرّأت علينا عدوّنا بما كتبت إليه، فإذا كاتبت أحدا فاستشر. » ثم التقوا ببابل، فاقتتلوا بعدوة الصراة الدنيا قتالا شديدا.
ثم إنّ المثنى وناسا من المسلمين اعتوروا الفيل، وكان يفرّق بين الصفوف والكراديس، فأصابوا مقتله، فقتلوه، وهزموا أهل فارس واتّبعهم المسلمون يقتلونهم حتى جازوا بهم مسالحهم، وطلبوا الفلّ حتى بلغوا المدائن. ومات شهربراز منهزم هرمز جاذويه، واختلف أهل فارس بعده، وأبطأ خبر أبي بكر على المسلمين لمرضه.
فخرج المثنى نحو أبي بكر ليخبره خبر المسلمين ويستأذنه في الاستعانة بمن ظهرت توبته من أهل الردّة - وكان أمر أبو بكر ألّا يستعان بهم - وليخبره أنّه لم يخلّف أحدا أنشط لقتال فارس ومعونة المهاجرين منهم. فقدم المدينة واستخلف على عسكره بشير بن الخصاصيّة فوجد أبا بكر - رضي الله عنه - مريضا مرضه الذي مات فيه، فأخبره الخبر.
فدعا أبو بكر عمر - وكان قد عقد له - فقال:
« يا عمر، اسمع ما أقول لك، ثم اعمل عليه. إني أظنّ أن أموت من يومي هذا - وذلك يوم الاثنين - فإن أنا متّ، فلا تمسينّ حتى تندب الناس مع المثنى، ولا تشغلنّكم مصيبة - وإن عظمت - عن أمر دينكم، ووصية ربّكم، وقد رأيتنى متوفّى رسول الله وما صنعت، ولم يصب الخلق بمثله. وبالله لو أنّى أنى عن أمر الله لخذلنا ولاضطرمت المدينة نارا. وإن فتح الله على أمرائنا فاردد أصحاب خالد إلى العراق، فإنّهم أهله وولاة حدّه، وأهل الضراوة بهم، والجرأة عليهم. » ومات أبو بكر رضي الله عنه مع الليل، وندب عمر الناس مع المثنى. وقال عمر:
« كأنّ أبا بكر علم أنّه يسوءنى أن أؤمّر خالدا على العراق حين أمرنى بصرف أصحابه، وترك ذكره. » وتشاغل أهل فارس فيما بينهم عن إزالة المسلمين عن السواد فيما بين خلافة أبي بكر إلى قيام عمر، ورجوع المثنى مع أبي عبيد إلى العراق، وكان جمهور جند العراق بالحيرة بالسيب والغارات تنتهي بهم إلى شاطئ دجلة، ودجلة حجاز بين العرب والعجم.
أسماء كتاب أبي بكر رضي الله عنه

كتب لأبي بكر رضي الله عنه: عثمان بن عفّان، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن الأرقم، وحنظلة بن الربيع
.
مما حدث في خلافة عمر

عمر يقاسم خالدا ماله

فلمّا استخلف عمر كان أوّل ما تكلّم به عزل خالد بن الوليد. وكتب إلى أبي عبيدة بتأميره عليه، وقال له: « أدع خالدا، فإن أكذب نفسه في حديث تكلّم به خالد فهو أمير على ما هو عليه، وإن لم يكذب نفسه فأنت الأمير. ثم انزع عمامته عن رأسه، وقاسمه ماله نصفين. » فلما ذكر ذلك أبو عبيدة لخالد قال: « أنظرني أستشر في أمري. » ففعل أبو عبيدة. فدخل خالد على أخته فاطمة بنت الوليد، وكانت عند الحارث بن هشام، فذكر لها الحديث، فقالت: « والله لا يحبّك عمر أبدا، وما يريد إلّا أن تكذب نفسك ثم ينزعك. » فقبّل رأسها وقال: « صدقت. » وتمّ على أمره وأبي أن يكذب نفسه.
فقام بلال مولى أبي بكر، فقال: « ما أمرت به في خالد؟ » قال: « أمرت أن أنزع عمامته وأقاسمه ماله. » ففعل، وقاسمه ماله حتى بقيت نعلاه. فقال أبو عبيدة: « إنّ هذا لا يصلح إلّا بهذا. » فقال خالد: « أجل، وما أنا بالذي أعصى أمير المؤمنين، فاصنع ما بدا لك. » فأخذ نعلا وأحذاه نعلا.
ثم قدم خالد المدينة على عمر. فكان كلّما مرّ بخالد، قال: « يا خالد أخرج مال المسلمين من تحت استك. » فيقول: « والله ما عندي مال لهم. » فلمّا أكثر عليه عمر قال له خالد: « يا أمير المؤمنين، قيمة ما أصبت في سلطانكم أربعون ألف درهم. » قال عمر: « قد أخذت ذلك منك. » قال: « هو لك ». قال: « وأخذته. » ولم يكن لخالد مال إلّا عدّة ورقيق. فحسب ذلك، فبلغت ثمانين ألف درهم، فناصفه عمر على ذلك وأعطاه أربعين ألف درهم وأخذ ماله. فقيل: « يا أمير المؤمنين، لو رددت على خالد ماله. » فقال: « إنّما أنا تاجر للمسلمين، والله لا أردّه عليه أبدا. » فكان عمر يرى أنّه قد اشتفى من خالد حين صنع به ذلك.