تمليك يزدجرد

فاجتمع رستم والفيرزان عند بوران وقالا لها: « اكتبي لنا نساء كسرى وسراريّه. » - ففعلت.
فأرسلوا في طلبهنّ، فلم تبق امرأة إلّا أتوا بها، فأخذوهنّ بالرجال، ووضعوا عليهنّ العذاب يستدلّون على ذكر من أبناء كسرى. فلم يوجد عندهنّ أحد.
فقالت إحداهنّ: « لم يبق إلّا غلام يدعى يزدجرد من ولد شهريار بن أبرويز، وأمّه من أهل بادوريا. »
فأرسلوا إليها، فأخذوها به، وكانت قد أنزلته [ في أيام شيرى ] حين جمعهنّ في القصر الأبيض، وقتل الذكور إلى أخواله وكانت واعدتهم، ثم دلّته إليهم في زبيل. فلما أخذت أمّه به، دلّتهم عليه، فأرسلوا، فجاؤوا به، فملّكوه وهو ابن إحدى وعشرين سنة، واجتمعوا عليه واطمأنّت فارس، واستوسقوا، وتبارى الرؤساء في طاعته ومعونته. فسمّى الجنود لكلّ مسلحة كانت لكسرى أو موضع ثغر. فسمّى جند الحيرة وجند الأنبار والأبلّة والمسالح، وأظهروا الجدّ والنصيحة.
وبلغ ذلك من أمرهم واجتماعهم المثنى والمسلمين، فكتبوا إلى عمر بما ينتظرون منهم. فلم يصل الكتاب إلى عمر، حتى كفر أهل السواد كلهم: من كان له عهد ومن لم يكن له عهد.
فكتب عمر إليهم: « فاخرجوا من بين ظهراني الأعاجم، وتفرّقوا في المياه التي تليهم على حدود أرضهم، ولا تدعوا في ربيعة أحدا ولا مضر ولا حلفاءهم من أهل النجدات، ولا فارسا، إلّا اجتلبتموه، فإن جاء طائعا، وإلّا حشرتموه. احملوا العرب على الجدّ إذا جدّ العجم. » فنزل المثنى بذي قار، ونزل الناس بالحلّ، وبشراف إلى غضيّ - وغضيّ جبل البصرة - فكان في أمواه العرب من أولها إلى آخرها مسالح ينظر بعضهم إلى بعض ويعين بعضهم بعضا إن كان كون. وذلك في ذي العقدة من سنة ثلاث عشرة للهجرة.
وكتب عمر إلى عمّال العرب على الكور والقبائل أن: « لا تدعوا أحدا له سلاح أو فرس أو نجدة إلّا انتخبتموه، ثم وجّهتموهم إليّ، والعجل العجل. » فمضت الرسل، ووافاه هذا الضرب من القبائل، وأخبروه عمّن وراءهم بالحثّ والجدّ.
وخرج عمر في أول يوم من المحرّم سنة أربع عشرة حتى نزل ما يدعى صرارا، فعسكر به ولا يدرى الناس ما يريد. وكان عثمان أجرأ عليه، فقال له: « ما بلغك؟ ما الذي تريد؟ » فنادى: « الصلوة جامعة. » فاجتمع إليه الناس، فأخبرهم الخبر، ثم نظر ما يقول الناس.
فقام العامّة: سر وسر بنا معك! » فدخل معهم في رأيهم، وكره أن يدعه حتى يخرجهم منه في رفق، فقال: « استعدّوا، فانّى سائر، إلّا أن يجيء رأى هو أمثل من ذلك. » ثم جمع أهل الرأي ووجوه أصحاب النبي فقال: « أحضرونى الرأي. » فأجمع ملأهم أن يقيم، ويبعث رجلا من أصحاب رسول الله، ويرميه بالجنود.
فنادى عمر: « الصلوة جامعة. »
فاجتمع إليه الناس. فأرسل إلى عليّ، وكان استخلفه على المدينة، فأتاه، وإلى طلحة، وكان على مقدمته، فرجع إليه، وإلى الزبير وعبد الرحمن بن عوف، وكانا في المجنّبتين.
ثم قام فيهم، فقال:
« إنّ الله جمع على الإسلام أهله، فألّف بين القلوب وجعلهم فيه إخوانا، فالمسلمون فيما بينهم كالجسد، لا يخلو منه شيء مما أصاب غيره، وكذلك يحقّ عليهم أن يكونوا وأمرهم شورى بينهم. فالناس تبع لمن قام لهذا الأمر ما اجتمعوا عليه، ورضوا به، وما رءاه أولوا الرأي لزم الناس، وكانوا له تبعا، فمن قام بهذا الأمر فهو تبع لأولى الرأي. أيّها الناس! إني كنت كرجل منكم، حتى صرفني ذوو الرأي عن الخروج، فقد رأيت أن أقيم وأبعث رجلا وقد أحضرت هذا الأمر من قدّمت ومن خلّفت. »
فكان طلحة ممن تابع وعبد الرحمن ممن نهاه وقال: « بأبي أنت وأمي... » قال عبد الرحمن: فما فديت أحدا بأبي وأمي بعد النبي غيره، وقلت: «.. اجعل عجزها بي، وأقم، وابعث جندا، فقد رأيت قضاء الله لك في جنودك فإن يهزم جيشك فليس كهزيمتك، وإنّك إن تقتل أو تهزم في أنف الأمر خشيت على المسلمين. »
قال عمر: « فأشيروا عليّ برجل! » قال عبد الرحمن: « وجدته. » وكان ورد كتاب سعد بن أبي وقاص وهم في تلك الحال، جوابا عن كتاب عمر: « إني قد انتخبت لك ألف فارس كامل كلّهم له نجدة ورأى وصاحب حيطة يحوط حريم قومه ويمنع ذمارهم، إليه انتهت أحسابهم ورأيهم فشأنك بهم. » ووافق كتابه مشورتهم.
وقال عبد الرحمن: « وجدته لك. » قال: « من؟ » قال: « الأسد عاديا، سعد بن مالك. » فأرسل إليه، فقدم، فأمّره على حرب العراق، وأوصاه، وقال: « يا سعد سعد بنى وهيب! لا يغرّنّك من الله أن قيل: خال رسول الله! ليس بينه وبين أحد نسب إلّا طاعته. فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء: الله ربّهم وهم عباده، يتفاضلون بالعافية، ويدركون ما عنده بالطاعة. فانظر الأمر الذي رأيت رسول الله منذ بعث إلى أن فارقنا - عليه، فالزمه، فإنّه الأمر.
هذه عظتى إياك إن تركتها ورغبت عنها حبط عملك وكنت من الخاسرين. » فسار سعد، ومات المثنى من انتقاض جراحته قبل أن يصل إليه سعد. وذاك أنّ جرحه كان ينتقض ويبرأ حتى مات. وقدم سعد، فأغار في ما يليه، ولم يزل كذلك، إلى أن ألحّ يزدجرد على رستم، وقال: « لا بدّ أن تلى حرب العرب بنفسك. » فخرج رستم في العدّة والعديد والخيول والفيول، وراسله سعد بالمغيرة بن شعبة وغيره من دهاة العرب وأصحابه من ذوي الهيئات والآراء، فجرت بينهم مخاطبات، لا تجربة فيها ولا فائدة في المستأنف، فتركنا ذكرها.
إلى أن صافّهم رستم وعبر إليهم. وكان في القلب الذي فيه رستم ثمانية عشر فيلا عليها الصناديق والرجال، وفي المجنّبتين ثمانية وسبعة عليها الصناديق والرجال، وأقام الجالنوس بينه وبين ميمنته، والفيرزان بينه وبين ميسرته، وبقيت القنطرة بين خيلين من خيول المسلمين والمشركين.