درفش الكابيان وغيره من الأسلاب

وأخذ ضرار بن الخطّاب درفش الكابيان، فعوّض منها ثلاثين ألفا، وكانت قيمتها ألفي ألف ومائتي ألف. وجمعت الأسلاب والأموال، فجمع منها شيء لم يجمع قبله ولا بعده.
وأرسل سعد إلى هلال، فدعى، فقال: « أين صاحبك؟ » قال: « رميت به تحت أبغل كانت هنالك. » قال: « اذهب، وجئ به. » فأمضى له سلبه. وبعث زهرة بن الحويّة يتبع الجالنوس ومن لحق به، وأمر القعقاع بمن سفل، وشرحبيل بمن علا. وأمر بدفن الشهداء. فخرج زهرة بن الحويّة في آثارهم. فلمّا انتهى إلى الردم وجده مبثوقا، ليمنعوهم من الطلب. فقال زهرة: « يا بكير - وكان معه - أقدم فرسك! » وكان بكير يقاتل على الإناث، وقال: « ثبى أطلال! » فتجمّعت ووثبت. وأوثب زهرة فرسه - وكان على حصان - فاتبعه وتتابع على ذلك ثلاثمائة فارس. ونادى زهرة حين كاعت الخيل: « خذوا أيها الناس على القنطرة فعارضونا! » ففعل الناس ذلك ومضى زهرة، فلحق الفرس، وقد نزلوا الخرّارة وطمعوا، وهم يتعجّبون من رميهم وأنّه لم يعمل في العرب. وكان الجالنوس قد رفع له كرة، فهو يرميها ويشكّها بالنشّاب. فشدّ زهرة على الجالنوس، فقتله، وانهزمت الفرس.
وقد قيل: إنّ الجالنوس كان راكبا يحمى الفرس حين لحقهم زهرة، فشاوله، واختلفا ضربتين سبقه زهرة، فقتله.
وأمّا القعقاع وشرحبيل فإنّهما خرجا في طلب من ارتفع وسفل، فقتلوهم في كلّ قرية وأجمة وشاطئ نهر، وراجعوا. فتوافوا عند صلاة الظهر، وهنّأ الناس بعضهم بعضا، وأثنى سعد على كلّ حيّ، وذكر خيرا.
وتدرّع زهرة ما كان على الجالنوس، فبلغ بضعة وسبعين ألفا. فلمّا رجع إلى سعد نزع سلبه وقال: « ألا انتظرت إذنى؟ » فكتب عمر إلى سعد: « تعمد إلى مثل زهرة وقد صلى بما صلى به وقد بقي من حربك ما بقي، تكسر قوّته، وتفسد قلبه! أمض له سلبه، وفضّله عند العطاء بخمسمائة. » وقد حكى أنّ عامة من شهد القادسية فضّلوا عند العطاء بخمسمائة. وأمّا أهل الأيّام، فإنّهم فضّلوا على أهل القادسية، فإنّهم فرض لهم على ثلاثة آلاف.
فقيل لعمر: « لو ألحقت بهم أهل القادسية، أو فضّلت من بعدت داره على من قاتلهم بفنائه. » فقال: « كيف أفضّلهم وهم شجى العدوّ، فهلّا فعل المهاجرون بالأنصار إذ قاتلوهم بفنائهم مثل هذا. » فحكى عن رجل من عبس قال: أصاب أهل فارس يومئذ بعد ما انهزموا ما لم يصب الناس قبلهم. لقد كان الرجل من المسلمين يدعو الفارس منهم وعليه السلاح التامّ، فيأتيه حتى يقوم بين يديه فيضرب عنقه ويأخذ سلاحه، وربما قتله بسلاحه، وربما أمر الرجلين أحدهما بصاحبه، وكذلك في العدّة. وكان ممن هرب: الهرمزان، وقارن، وأهود.
وكان ممن استقتل: شهريار بن كنارا، وابن الهربذ، والفرّخان، وخسروشنوم.
وباع هلال بن علّفة سلب رستم - وكان تخفّف لما وقع في الماء - بسبعين ألفا، وكانت قيمة قلنسوته مائة ألف لو ظفر بها.
وجاء نفر من العباد حتى دخلوا على سعد، فقالوا: « أيها الأمير، رأينا جسد رستم على باب قصرك، وعليه رأس غيره. » وكان الضرب قد شوّهه، فضحك.
ومن أنباء الشام
وأما جند الشام فإنّ حمص افتتحت، وتوجّه علقمة إلى غزّة، وتوجّه معاوية إلى قيساريّة، وصمد عمرو بن العاص إلى الأرطبون بأجنادين، وكان الأرطبون أدهى الروم، أبعدها غورا، وأذكاها فعلا، وكان على الروم، وقد وضع بالرملة جندا عظيما، وكتب عمرو إلى عمر [ بالخبر ].
فقال عمر: « قد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب، فانظروا عمّا تنفرج. »
ذكر خديعة عمرو لأرطبون

وجعل عمرو ينفذ إلى الأرطبون رسلا فلا يشفونه. ولا يقدرون من أرطبون على سقطة. فعزم على أن يتولّاه بنفسه، فدخل عليه كأنّه رسول. فأبلغه ما يريد، وسمع كلامه، وتأمّل حصونه حتى عرف ما أراد.
وقال أرطبون في نفسه: « والله إنّ هذا لعمرو، أو الذي يأخذ عمرو برأيه، وما كنت لأصيب القوم بأعظم عليهم من قتله. »
ثم دعا حرسيّا، فسارّه بقتله، وقال: « اخرج بمكان كذا وكذا، فإذا مرّ بك هذا فاقتله. » وفطن له عمرو فقال: « قد سمعت مني وسمعت منك. فأمّا ما قلت فقد وقع مني موقعا، وأنا واحد من عشرة بعثنا عمر بن الخطّاب مع هذا الوالي لنكاتفه ويشهدنا أموره. فأرجع، فآتيك بهم الآن. فإذا رأوا في الذي عرضت مثل رأيي فقد رآه أهل العسكر والأمير، وإن لم يروه رددتهم إلى مأمنهم، وكنت على رأس أمرك. » فقال: « نعم. » ودعا رجلا، فسارّه وقال: « اذهب إلى فلان فردّه إليّ. » فرجع الرجل. وقال لعمرو: « انطلق، فجئ بأصحابك. » فخرج عمرو ورأى ألّا يعود لمثلها، وعلم الرومي أنّه قد خدعه. فقال: « خدعني الرجل. هذا أدهى الخلق. » فبلغت عمر فقال: « خدعه عمرو وغلبه. لله عمرو. »
سعد بن أبي وقاص يقدم زهرة إلى بهرسير

ثم إنّ سعد بن أبي وقاص قدّم زهرة بهرسير. فمضى زهرة من كوثى في المقدّمات حتى نزل بهرسير، فتلقاه شيرزاد بساباط بالصلح وتأدية الجزى.
فأمضاه إلى سعد، فأقبل معه وتبعته المجنّبات. وخرج هاشم وخرج سعد في إثره وقد فلّ زهرة كتيبة كسرى بوران [ حول ] المظلم، وانتهى هاشم إلى مظلم ساباط، ووقف لسعد حتى لحق به، وكانت به كتائب كسرى تدعى: « الأسود »، يحلفون بالله كلّ يوم: « لا يزول ملك فارس ما عشنا. » فتنادوا ورئيسهم المقرّط. وقال المقرّط: « إليّ إليّ. » وذلك لما انتهى إليه. فنزل إليه هاشم فقتله. فقبّل سعد رأس هاشم، وقبّل هاشم قدم سعد. وقدم سعد إلى بهرسير، فنزل إلى المظلم وقرأ: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ من قَبْلُ ما لَكُمْ من زَوالٍ. ثم ارتحل فنزل بهرسير. وجعل المسلمون كلّما قامت طائفة على بهرسير، وقفوا، ثم كبّروا كذلك، حتى انجرّ آخر من مع سعد، فكان مقامه على بهرسير شهرين. وعبروا في الثالث، وذلك أنّهم أقاموا شهرين يرمونهم بالمجانيق، ويدبّون إليهم بالدبابات، ويقاتلونهم بكلّ عدّة. وكان سعد استصنع شيرزاد عشرين منجنيقا، فشغلوهم بها. وكانت العرب مطيفة ببهرسير والعجم متحصّنة فيها. وربما خرج الأعاجم يمشون على المسنّيات المشرفة على دجلة في العدّة والعديد لقتال المسلمين، فلا يقومون لهم. فكان آخر ما خرجوا في رجّالة، وناشبة تجرّدوا للحرب، وتبايعوا على الصبر، فقاتلهم المسلمون ولم يلبّثوهم، فكذبوا وتولّوا.
ذكر استهانة في الحرب عادت بهلكة

هكذا وجدت في التاريخ وهو سهو، لأنّ زهرة بن الحويّة عاش بعد هذا، وشهد مواقف كثيرة، وسيرد جميعه على الأثر. ولعلّ هذا زهرة بن خالد، فلينظر في ذلك.
كان في ذلك اليوم على زهرة بن الحويّة درع مفصومة، فقيل له: « لو أمرت بهذا الفصم فسرد. » فقال: « ولم؟ » قال: « نخاف عليك منه. » قال: « إني لكريم على الله، إن ترك سهم فارس الجند كلّهم، ثم أتانى من هذا الفصم حتى يثبت في. » فكان أول رجل من المسلمين يومئذ أصيب هو بنشّابة ثبتت فيه من ذلك الفصم.
فقال بعضهم: « انزعوها عنه. » فقال: « دعوني، فإن نفسي معي ما دامت في، لعلّى أصيب منهم بطعنة، أو ضربة، أو خطوة. » فمضى نحو العدوّ، فضرب بسيفه شهربراز من أهل إصطخر، فقتله، وأحيط به فقتل، وانكشفوا. وتنادى أهل بهرسير، فعبروا. فلمّا رآهم سعد والمسلمون يعبرون، زحفوا إلى السور والمجانيق تأخذه. فناداهم رجل: « الأمان ». فآمنوه، فقال: « أيّ شيء ترمون؟ ما بقي في المدينة أحد. » فتسوّروا، ودخلوا بهرسير، وفتحوا أبوابها، وتحوّل العسكر إليها، وحاولوا العبور، فوجدوهم قد ضمّوا السفن إليهم في ما بين البطائح وتكريت.