ما عامل به عمر خالد بن الوليد

وفي سنة سبع عشرة، أدرب خالد بن الوليد وعياض، وكان خالد على قنّسرين من تحت يد أبي عبيدة، فأصابوا أموالا عظيمة. فانتجع خالدا رجال.
وكان الأشعث بن قيس فيمن انتجع خالدا بقنّسرين، فأجازه بعشرة آلاف، وكان عمر لا يخفى عليه شيء في عمله، فكتب إليه بخروج من خرج من تلك الغزاة من الشام، وبجائزة من أجيز.
فدعا البريد وكتب معه إلى أبي عبيدة:
أن يقيم خالدا ويعقله بعمامته، وينزع عنه قلنسوته حتى يعلمكم من أين أجاز الأشعث: أمن ماله، أم من إصابة، فإن زعم أنّها من إصابة أصابها، فقد أقرّ بخيانة، وإن زعم أنّها من ماله، فقد أسرف، فاعزله على كلّ حال، واضمم إليك عمله.
فكتب أبو عبيدة إلى خالد، فقدم عليه. ثم جمع الناس وجلس لهم على المنبر، فقام البريد، فقال: « يا خالد! أمن مالك أجزت بعشرة آلاف، أم من إصابة؟ » فلم يجبه حتى أكثر عليه وأبو عبيدة ساكت لا يقول شيئا.
فقال بلال بعد أن قام إليه: « إنّ أمير المؤمنين أمر بكذا وكذا. » وتناول عمامته فنقضها، لا يمنعه سمعا وطاعة. ووضع قلنسوته، ثم أقامه، فعقله بعمامته وقال: « ما تقول، أمن مالك، أم من أصابة؟ » قال: « لا. بل من مالي. » فأطلقه، وأعاد قلنسوته، ثم عممه بيده وقال: « نسمع ونطيع لولاتنا، ونفخّم ونخدم موالينا. » وأقام خالد متحيّرا لا يدرى: أمعزول أم غير معزول. وجعل أبو عبيدة يكرمه ويزيده تفخيما ولا يخبره. فلمّا طال على عمر أن يقدم خالد، ظنّ الذي كان.
فكتب إليه بالإقبال.
فأتى خالد أبا عبيدة، فقال: « رحمك الله، ما أردت إلى ما صنعت؟ كتمتني أمرا كنت أحبّ أن أعرفه قبل اليوم. » فقال أبو عبيدة: « إني والله ما كنت لأروعك: ما وجدت بدّا، وقد علمت أنّ ذلك يروعك. » فرجع خالد إلى قنّسرين فخطب أهل عمله، وودّعهم، وتحمّل، ثم خرج نحو المدينة حتى قدم على عمر، فشكاه، وقال: « لقد شكوتك إلى المسلمين، وبالله، إنّك في أمري غير مجمل يا عمر. » فقال له عمر: « من أين هذا الثراء؟ » قال: « من الأنفال والسّهمان. » ثم أخذ منه عشرين ألف درهم، فأدخلها بيت المال. ثم قال: « يا خالد، والله إنّك عليّ لكريم، وإنّك إليّ لحبيب، ولن تعاتبني بعد اليوم على شيء. »
وكتب عمر في الأمصار:
« إني لم أعزل خالدا عن سخط ولا خيانة ولكنّ المسلمين فتنوا به، فخفت أن يوكلوا إليه ويبتلوا [ به ] وأحببت أن تعلموا أنّ الله هو الصانع، وألّا نكون بعرض فتنة. »
وحجّ عمر في هذه السنة، وبنى المسجد الحرام، ووسّع فيه، وأقام بمكة عشرين ليلة، وهدم على أقوام أبوا أن يبيعوا، ووضع أثمان دورهم في بيت المال حتى أخذوها.
علاء بن الحضرمي وعاقبة عصيانه

وكان علاء بن الحضرمي بالبحرين واليا من قبل أبي بكر ثم من قبل عمر وكان يبارى سعدا، فطال العلاء على سعد في الردّة بالفضل. فلمّا ظفر سعد بالقادسيّة، وأزاح الأكاسرة، وأخذ حدود ما يلي السواد وغيرها، واستعلى، وجاء بأعظم مما كان العلاء جاء به، أحبّ العلاء أن يصنع شيئا في الأعاجم، ورجا أن يدال كما قد أديل.
ولم ينظر العلاء في ما بين فضل الطاعة والمعصية بجدّ. وكان عمر لما ولّاه نهاه عن البحر، فلم يفكّر في الطاعة والمعصية وعواقبهما، وطمع في فارس من جهته.
فندب أهل البحرين إلى فارس، فتسرّعوا إلى ذلك، وفرّقهم أجنادا: على أحدها الجاورد بن المعلّى، وعلى الآخر السوار بن همّام، وعلى الآخر خليد بن المنذر بن ساوى، وخليد على جماعة الناس. فحملهم في البحر إلى فارس بغير إذن عمر. فعبرت تلك الجنود من البحرين إلى فارس، فخرجوا في إصطخر وبازائهم أهل فارس وعلى أهل فارس الهربذ، اجتمعوا عليه، فحالوا بين المسلمين وبين سفنهم.
فقام خليد في الناس فقال:
« أمّا بعد، فإنّ الله إذا قضى أمرا جرت به المقادير حتى يصيبه، وإنّ هؤلاء القوم لم يزيدوا بما صنعوا على أن دعوكم إلى حربهم، وإنّما جئتم لمحاربتهم والأرض والسفن لمن غلب، فاستعينوا بالصبر والصلاة. »
فأجابوه إلى ذلك وصلّوا الظهر، ثم ناهدوهم في موضع يقال له: طاؤوس.
فقتل جماعة من المسلمين فيهم السوار والمنذر بن الجارود. وتزجّل خليد بن المنذر وارتجز:
يال تميم جمّعوا النزول ** قد كاد جيش عمر يزول
وكلّكم يعلم ما أقول
« وانزلوا! » فنزلوا، فقاتلوا القوم، فقتل أهل فارس مقتلة لم يقتلوا مثلها، وهزم الباقون. ثم خرجوا يريدون البصرة، فغرقت سفنهم ولم يجدوا إلى الرجوع سبيلا. فوجدوا سهرك قد أخذ على المسلمين بالطرق، فعسكروا وامتنعوا في نشوبهم ذلك.
وبلغ عمر ما صنع العلاء من بعثه ذلك الجيش في البحر، فألقى في روعه نحو من الذي كان. فاشتدّ غضبه على العلاء، وكتب إليه بعزله، وتوعّده، وأمره بأثقل الأشياء عليه، وقال له:
« الحق بسعد بن أبي وقّاص في من قبلك، فهو أمير عليك. » فخرج بمن معه نحو سعد.
وكتب عمر إلى عتبة بن غزوان:
« انّ العلاء بن الحضرمي حمل جندا من المسلمين، فأقطعهم أهل فارس وعصاني، وأظنّه لم يرد الله بذلك، فخشيت عليهم ألّا ينصروا، وأن يغلبوا، وينشبوا. فاندب إليهم الناس واضممهم إليك من قبل أن يجتاحوا. »
فندب عتبة الناس إليهم وأخبرهم بكتاب عمر. فانتدب عاصم بن عمرو وعرفجة وجماعة يجرون مجراهم كالأحنف بن قيس، وسعد بن أبي العرجاء، وصعصعة بن معاوية، فخرجوا في اثنى عشر ألفا على البغال يجنبون الخيل وعليهم أبو سبرة بن أبي رهم. فسار أبو سبرة بالناس وساحل لا يلقاه أحد ولا تعرّض له حتى التقى مع خليد، بحيث أخذ عليهم الطريق غبّ وقعة القوم بطاؤوس، وإنّما كان ولى قتالهم أهل إصطخر والشذّاذ من غيرهم، وقد كان أهل إصطخر حيث أخذوا بالطرق على المسلمين وأنشبوهم، استصرخوا أهل فارس كلهم، فضربوا إليهم من كلّ وجه وكورة.
فالتقوا هم وأبو سبرة بعد طاؤوس وقد توافت إلى المسلمين أمدادهم، وإلى المشركين أمدادهم، وعلى المشركين سهرك. فاقتتلوا، ففتح الله على المسلمين، وقتل المشركين وأصاب المسلمون منهم ما شاءوا، وهي الغزاة التي شرفت فيها نابتة البصرة وكانوا أفضل نوابت الأمصار، ثم انكفأوا بما أصابوا.
وكتب إليهم عتبة بالحثّ وقلّة العرجة، فانضمّوا إليه بالبصرة، وقبل ذلك فتح عتبة الأهواز، وقاتل فيها الهرمزان حتى ظفر به بتستر بعد وقعات أسر في آخرها الهرمزان وأعطى بيده على الرضا بحكم عمر. وقتل الهرمزان بيده البراء بن مالك ومجزأة بن ثور.