فتح الباب والفتوح التي كانت بعده

وأنفذ عمر سراقة بن عمرو - وكان يكنّى ذا النون - إلى الباب وجعل على مقدّمته عبد الرحمن بن ربيعة، وسمى لإحدى مجنّبتيه حذيفة بن أسد، وسمى للأخرى بكير بن عبيد الله الليثي، وهو الذي كان بإزاء الباب قبل قدوم سراقة عليه. فلمّا قدم سراقة قدّم بكيرا في أدانى الباب، فدخل بكير بلاد الباب والملك يومئذ شهربراز الذي أفسد بني إسرائيل وأعرى الشام منهم.
فكاتب عبد الرحمن شهربراز، واستأمنه على أن يأتيه. ففعل، فأتاه، فقال له:
« إني بإزاء عدو كلب وأمم مختلفة لا ينسبون إلى أحساب، وليس ينبغي لذي الحسب والعقل أن يعين هؤلاء ولا يستعين بهم على ذوي الأحساب والأصول، وذو الحسب قريب ذي الحسب حيث كان، ولست من الأرمن في شيء ولا من القبق، وإنّكم قد غلبتم على بلادي وأمّتى، وأنا اليوم منكم، ويدي مع أيديكم، وصفوي معكم، وجزيتنا إليكم، والنصر لكم، والقيام بما تحبّون، فلا تذلّونا بالجزية فتوهنونا لعدوكم. »
فقال عبد الرحمن: « فوقى أمير قد أظلّك، فسر إليه. » فجوّزه فسار إلى سراقة، فلقيه بمثل ذلك.
فقال سراقة: « قد قبلت ذلك ممن كان معك على هذا ما دام عليه، ولا بدّ من الجزى ممن يقيم ولا ينهض. » فقبل ذلك، وكتب سراقة إلى عمر بن الخطّاب بذلك، فأجازه، وحسّنه، وصارت سنّة فيمن يحارب العدو من المشركين وفيمن لم يكن عنده الجزى أن يستنفروا، ثم يوضع عنهم جزى تلك السنة.
ووجّه سراقة بعد ذلك بكير بن عبد الله، وحبيب بن مسلمة، وحذيفة بن أسد، وسلمان بن ربيعة إلى الجبال المطيفة بأرمينية، ووجه بكيرا إلى موقان، وحبيبا إلى تفليس، وحذيفة إلى جبال اللّان، وسلمان إلى الوجه الآخر، وكتب سراقة بالفتح وبمن وجّه من هؤلاء النفر. فأتى عمر بن الخطّاب أمر لم يكن يرى انّه يستمر بتلك السرعة بغير مؤونة. فلما استوسق الأمر بتلك الناحية واستحلوا عدل الإسلام مات سراقة واستخلف عبد الرحمن بن ربيعة.
فأقرّ عمر عبد الرحمن على فرج الباب، وأمره بغزو الترك. فخرج عبد الرحمن بالناس حتى قطع الباب.
فقال له شهربراز: « ما تريد أن [ تصنع ]؟ » قال: « أريد بلنجر. » قال: إنّا لنرضى منهم أن يدعونا من دون الباب. »
قال: « لكنّا لا نرضى منهم بذلك حتى نأتيهم في ديارهم. والله إنّ معنا لأقواما لو يأذن لنا أميرنا في الإمعان لبلغت بهم الروم. » قال: « وما هم؟ » قال: « قوم صحبوا رسول الله ودخلوا في هذا الأمر بنيّة، كانوا أصحاب حياء وتكرّم في الجاهلية، فازداد حياؤهم وتكرّمهم، فلا يزال هذا الأمر دائما لهم، ولا يزال النصر معهم حتى يغيّرهم أمر، أو يلفتوا عن حالهم بمن يغيّرهم. » فغزا بلنجر - غزاه في زمن عمر - لم تئم فيها امرأة، ولا يتم فيها صبيّ. وبلغت خيله البيضاء على رأس مائتي فرسخ من بلنجر، ثم غزا فسلم أيضا، وغزا [ غزوات ] في زمن عثمان، وأصيب عبد الرحمن حين تبدّل أهل الكوفة في إمارة عثمان، لما استعمل من كان ارتدّ واستعان بهم، فساد من طلب الدنيا، وعضّلوا بعثمان حتى كان يتمثل:
وكنت وعمرا كالمسمّن كلبه ** فخدّشه أنيابه وأظافره
وكان عبد الرحمن بن ربيعة لما غزا الترك، قالوا:
« ما اجترأ علينا هذا الرجل إلّا ومعهم الملائكة يمنعهم من الموت ».
فتحصّنوا منه، وهربوا. فرجع بالغنم.
فلمّا كان بعد ذلك غزا تلك الغزوات الأخر على تلك العادة، حتى إذا كان في زمن عثمان بعد السنين الستّ منه، غزا غزوة. وكان من الترك طائفة في الغياض مختفين، فرمى رجل منهم مسلما على غرّة، فقتله وهرب عنه أصحابه، فتجاسروا بعد ذلك وتنادوا.
فأمّا عبد الرحمن فقتل، واشتدّ القتال، وأخذ الراية سلمان بن ربيعة، وخرج بالناس على جيلان إلى جرجان، واجترأ الترك بعدها، ولم يمنعهم ذلك من اتخاذ جسد عبد الرحمن، فهم يستسقون به حتى الآن.
ما جرى بين يزدجرد وآبان جاذويه في الري

ولما انتهى يزدجرد في مسيره بعد جلولاء إلى الريّ كان عليها آبان جاذويه، فوثب عليه، فأخذه فقال: « يا آبان جاذويه، تغدر بي؟ » قال: « ولكنّك تركت ملكك وصار في يد غيرك وأريد أن أكتتب على ما كان لي من شيء، وما أردت من غير ذلك. » وأخذ خاتم يزدجرد وكتب الصكاك على الأدم، وسجّل السجلّات بكل ما أعجبه، ثم ختم عليها، وردّ الخاتم. ثم أتى بعد سعدا فردّ عليه كلّ شيء في كتابه. واستوحش يزدجرد من آبان وكرهه. فخرج هاربا إلى أصبهان ومعه النار، وأراد كرمان. ثم عزم على خراسان ليستمدّ الترك والصين وهو قريب منهم. فأتى مرو، فنزلها، وبنى للنار بيتا، واطمأنّ في نفسه.
غزو خراسان وهزيمة يزدجرد في بلخ

وخرج عبد الله بن عامر من البصرة في هذه السنة، وهي سنة إحدى وثلاثين، غازيا إلى خراسان. ففتح نيسابور وطوس ونسّا، حتى بلغ سرخس، وعلى مقدّمته الأحنف بن قيس. فلقيه الهياطلة، وهم أهل هراة، فهزمهم الأحنف، فبعثه ابن عامر إلى طخارستان. فلمّا دنا الأحنف من مرو الشاهجان خرج منها يزدجرد نحو مرو الروذ، فنزلها، ونزل الأحنف مرو الشاهجان، وكتب يزدجرد إلى خاقان من مرو الروذ يستمدّه، وكتب إلى ملك الصغد يستمدّه. فخرج رسوله إليهما، وكتب إلى ملك الصين يستعينه.
وخرج الأحنف من مرو الشاهجان، واستخلف عليه بعد ما لحقته الأمداد من أهل الكوفة قاصدا مرو الروذ. فلمّا بلغ مسيره يزدجرد خرج إلى بلخ.
ونزل الأحنف مرو الروذ، وقدم أهل الكوفة، فساروا إلى بلخ، واتبعهم الأحنف، فالتقى أهل الكوفة ويزدجرد ببلخ، فهزم يزدجرد، وتوجّه في أهل فارس إلى النهر، فعبر، ولحق الأحنف بأهل الكوفة وقد فتحوا بلخ، وعاد الأحنف إلى مرو الروذ.
وكتب عمر إلى الأحنف:
« أمّا بعد، فلا تجوزوا النهر، واقتصروا على ما دونه. » وبلغ رسولا يزدجرد خاقان وعارك، فلم يستتبّ لهم إنجاده، حتى عبر إليهم النهر مهزوما. فأنجده خاقان، فأقبل في الترك، وحشر أهل فرغانة والصغد، حتى خرج بهم راجعا إلى خراسان. فعبر إلى بلخ، وعبر معه خاقان، فأرز أهل الكوفة إلى مرو الروذ، إلى الأحنف.