وأقبل عليّ وطلحة والزبير حتى دخلوا على عثمان يعودونه من صرعته، ثم رجعوا إلى منازلهم. وكان الناس قبل ذلك وافقوه على أشياء وجد فيها اعتذارا، وعلى أشياء لم يجد فيها مقالا، فقال: « أستغفر الله وأتوب إليه. » وأخذوا ميثاقه وكتبوا عليه شرطا، وأخذ عليهم ألّا يشقّوا عصا، ولا يفارقوا جماعة ما قام لهم بشرطهم.
ثم قالوا: « نريد ألّا يأخذ أهل المدينة عطاء، فإنّما هذا المال لمن قاتل عليه، ولهؤلاء الشيوخ من أصحاب محمد. »
فرضوا، وأقبلوا معه حتى خطب عثمان، وقال: « ألا من كان له زرع فليلحق بزرعه، ومن كان له ضرع فليحلب، ألا! إنّه لا مال لكم عندنا، إنما هذا المال لمن قاتل عليه، ولهؤلاء الشيوخ من أصحاب محمد . » فغضب الناس وقالوا: « هذا مكر بني أمية. »
راكب له شأن

ورجع وفد المصريين راضين، فبيناهم في الطريق إذا هم براكب يتعرّض، فمرّة يرونه، ومرّة يغيب عنهم، فقالوا: « إنّ لهذا الرجل لشأنا. » فأخذوه، وقرّروه، فقال: « أنا رسول أمير المؤمنين إلى عامله بمصر. » ففتشوه فإذا هم بكتاب على لسان عثمان، عليه خاتمه، إلى عامله بمصر، قد جعل في إداوة [ يابسة ] يأمر بأن يقتلهم، أو يقطع أيديهم وأرجلهم، أو يصلبهم.
فأقبلوا حتى قدموا المدينة، فأتوا عليّا، فقالوا: « ألم تر إلى عدوّ الله! إنّه كتب فينا بكذا وكذا، بعد الميثاق الذي بيننا وبينه، وإنّ الله قد أحلّ لنا دمه، قم معنا إليه. » قال: « والله لا أقوم معكم! » قالوا: « فلم كتبت إلينا؟ » قال: « والله ما كتبت إليكم كتابا قطّ. » فنظر بعضهم إلى بعض، ثم قال بعضهم لبعض: « ألهذا تقاتلون؟ أم لهذا تغضبون؟ » فخرج عليّ من المدينة إلى قرية، وانطلق القوم حتى دخلوا على عثمان، فقالوا: « كتبت فينا بكذا وكذا. » فقال عثمان: « إنّما هما ثنتان: إمّا أن تقيموا عليّ رجلين من المسلمين، أو يميني بالله، الذي لا إله إلّا هو، ما كتبت، ولا أمللت، ولا علمت. وقد علمتم أنّ الكتاب يكتب على لسان الرجل، وينقش الخاتم على الخاتم. » فقالوا: « لئن كنت كاذبا في يمينك فقد أحلّ الله دمك، ولئن كنت صادقا لقد ضعفت عن الأمر، حين لا تضبط من أمرك هذا المقدار. » وقد حاصروه، وقد ذكر الناس في هذه الروايات أشياء شنعة لم نذكرها.
وقد كان عثمان لما أحسّ بانصراف المصريين إليه من الطريق، أتى عليّا في منزله، فقال: « يا ابن عمّ! إنّه ليس منزل، وإنّ قرابتي قريبة، ولى حقّ عظيم عليك، وقد جاء ما ترى من هؤلاء القوم، وهم مصبّحيّ، وأنا أعلم أنّ لك عند الناس قدرا، وأنّهم يستمعون منك، فأنا أحبّ أن تركب إليهم، فتردّهم عني. فإني لا أحبّ أن يدخلوا عليّ، فإنّ تلك جرأة منهم عليّ، ويسمع بذلك غيرهم. » فقال عليّ: « على م أردّهم؟ » قال: « على أن أصير إلى ما أشرت به عليّ، ورأيته لي، ولست أخرج من يديك. » فقال عليّ: « إني قد كنت كلّمتك مرّة بعد مرّة، وكل ذلك تخرج فتتكلّم وتقول وتقول، وذلك كلّه فعل مروان بن الحكم، وسعيد بن العاص وعبد الله بن عامر، ومعاوية، تطيعهم وتعصينى. » قال: وأمر الناس المهاجرين والأنصار، فركبوا معه. وأرسل عثمان إلى عمار بن ياسر، فكلّمه أن يركب مع عليّ، فأبى. ومضى عليّ في المهاجرين والأنصار، وهم ثلاثون رجلا. فكلّمهم عليّ ومحمد بن مسلمة حتى رجعوا.
فلما رجع عليّ إلى عثمان وأعلمه أنهم رجعوا، وكلّمه عليّ كلاما كان في نفسه، وخرج إلى بيته، مكث عثمان ذلك اليوم حتى إذا كان الغد جاءه مروان بن الحكم، فقال له: « تكلّم، وأعلم الناس أن أهل مصر علموا أنّ ما بلغهم عن إمامهم كان باطلا، وقد رجعوا، فإنّ خطبتك تسير في البلاد قبل أن يتحلّب الناس عليك من أمصارهم، فيأتيك أمر لا تستطيع دفعه. » [ فأبى ] عثمان، ولم يزل به مروان حتى خرج، فجلس على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: « أما بعد، فإنّ هؤلاء القوم من أهل مصر كان بلغهم عن إمامهم أمر، فلما تيقّنوا أنه باطل رجعوا إلى بلادهم. » فقال له عمرو بن العاص: « اتق الله يا عثمان! فإنّك قد ركبت نهابير وركبناها معك، فتب إلى الله نتب معك. » فناداه عثمان: « وإنّك هناك يا ابن النابغة قملت جبّتك منذ عزلتك عن العمل. » فنودي من ناحية أخرى: « أظهر التوبة يا عثمان يكفّ الناس عنك. » ونودى من ناحية اخرى بمثل ذلك.
فرفع عثمان يده واستقبل القبلة، فقال: « اللهمّ إني أول تائب إليك. »
ورجع إلى منزله.
ثم إنّ عليّا جاءه، فقال له: « تكلّم كلاما يسمعه الناس عامّة ويشهد الله على ما في قلبك من النزوع والإنابة، فإنّ البلاد قد تمخّضت عليك، فلا آمن ركبا آخر يقدمون من الكوفة أو البصرة، فتقول لي: اركب إليهم، فلا أركب، ولا أسمع لك عذرا، وتراني قد قطعت رحمك واستخففت بحقّك. »
فخرج عثمان، فخطب الخطبة المشهورة التي يقول فيها:
« إني نزعت وتبت مما فعلت، إذ التوبة خير من التمادي في الهلكة، والله أيها الناس، لئن ردّني الحق عبدا، لأذلّنّ ذلّ العبد، ولأكوننّ كالمرقوق الذي إن ملك صبر، وإن عتق شكر. فليأتنى وجوهكم. فوالله لأنزلنّ عند رأيكم، ولأنتهينّ إلى حكمكم. » فرقّ له الناس وبكى من بكى منهم، وعلت الأصوات بالنشيج.
فقال له سعيد بن زيد: « اتقّ الله يا أمير المؤمنين في نفسك، وأتمم على ما قلت. » فلما نزل عثمان وجد في منزله مروان، وسعدا، ونفرا من بني أمية لم يشهدوا الخطبة. قال مروان: « يا أمير المؤمنين، أتكلّم أم أصمت؟ » فقال بعض أهله: « لا، بل اصمت، فأنتم والله قاتلوه، إنّه قال مقالة مشهورة لا ينبغي أن ينزع عنها. » فأقبل عليها مروان بكلام قبيح إلى أن سكّتها عثمان. ثم قال مروان: « أتكلّم، أم أصمت؟ » قال: « بل تكلّم. » فقال مروان: « بأبي وأمي، لوددت أن مقالتك هذه كانت وأنت ممتنع منيع، وكنت أول من رضى بها، وأعان عليها، ولكنّك قلت حين بلغ الحزام الطبيين، وحين أعطى الخطّة الغليظة الذليل، والله لإقامة على خطيئة تستغفر منها، أجمل من توبة تجبر عليها، وقد اجتمع بالباب مثل الجبل من الناس. » فقال عثمان: « فاخرج إليهم، فكلّمهم، فإني أستحى أن أكلّمهم. » فخرج مروان إلى الباب والناس يركب بعضهم بعضا، فقال: « ما شأنكم؟ قد اجتمعتم كأنّكم جئتم لنهب، كلّ إنسان آخذ بأذن صاحبه، شاهت الوجوه، ألا، من أريد؟ جئتم أن تنزعوا ملكنا من أيدينا؟ اخرجوا عنّا، أما والله لئن رمتمونا لتلقون ما لا يسرّكم ارجعوا، فوالله ما نحن بمغلوبين على ما في أيدينا. » فرجع الناس إلى عليّ يشكون إليه. فجاء عليّ مغضبا حتى دخل على عثمان، فقال: « أما رضيت من مروان ولا رضى منك، إلّا بإخراجك عن دينك وعقلك، مثل جمل الظعينة، يقاد حيث شاء ربّته؟. والله ما مروان بذي رأى في دينه، ولا في نفسه، وإني لأراه سيوردك ولا يصدرك، وما أنا بعائد بعد هذا لمعاتبتك، فقد أكثرت وأكثرت. أذهب شرفك وغلبت على أمرك. » فلما خرج عليّ دخل إليه بعض أهله فقال: « إني سمعت قول عليّ لك، وإنه ليس يعاودك، فقد خالفته مرارا وأطعت مروان. »
قال: « فما أصنع؟ » قال: « تتقي الله وحده وتطيعه يرشدك، فإنّ مروان ليس له عند الناس قدر، ولا هيبة، ولا محبّة، وأراه سيقتلك، فأرسل إلى عليّ واستصلحه، فإنّه يعطف عليك ولا يعصى، وقوله مقبول. » فأرسل عثمان إلى عليّ، فأبى أن يأتيه وقال: « قد أعلمته أنّى غير عائد إليه. » ومكث عثمان لا يخرج ثلاثة أيام حياءا من الناس. ثم ذهب عثمان بنفسه حتى أتى عليّا في منزله ليلا، وجعل يقول: « إني غير عائد، وإني فاعل، وإني فاعل. » فقال له عليّ: « أبعد ما تكلّمت به على منبر رسول الله وأعطيت من نفسك، وبكيت حتى اخضلّت لحيتك بالدمع، وأبكيت الناس، ودخلت منزلك. وخرج مروان إلى الناس يشتمهم على بابك، ويتلقّاهم بما يكرهونه؟ » وانصرف من عند عليّ، ولم يزل عليّ متنكّبا عنه، لا يفعل ما كان يفعل، إلّا أنّه لما منع الماء وحصر امتعض له وغضب غضبا شديدا، وكلّم طلحة وغيره حتى دخلت الروايا إلى عثمان.
ولما رأى عثمان ما نزل به وما قد انبعث عليه من الناس كتب إلى معاوية، وهو بالشام. يسأله أن يبعث له مقاتلة الشام على كلّ صعب وذلول. فلما جاء معاوية كتابه تربّص، وكره إظهار مخالفة أصحاب النبي فلمّا أبطأ نصره على عثمان كتب إلى أهل الشام يستنفرهم، ويعظّم حقّه، ويذكر أمر الخلفاء، وما أمر الله به من طاعتهم ويقول: « والعجل، العجل، فإنّ القوم معاجليّ. » فقام قوم يحضّضون على نصره، وانتدب خلق كثير.
وكتب عثمان إلى عبد الله بن عامر بالبصرة: أن اندب إليّ أهل البصرة، وكتب إلى أهل البصرة نسخة كتابه إلى الشام. فقامت الخطباء من أهل البصرة بحضرة عبد الله بن عامر يحضّون على نصر عثمان، وعلى المسير إليه، فيهم مجاشع بن مسعود، وهو يومئذ سيّد قيس في البصرة. فتسارع الناس، وكان أشار مروان على عثمان بمقاربة من حوله من أهل مصر وغيرهم حتى يقوى، وقال له: « أعطهم ما سألوك، وطاولهم ما طاولوك، وأرسل إلى عليّ يكلّمهم. » فراسل عليّا وقال: « إنّ الأمر بلغ القتل، فاردد الناس عني، فإنّ الله لهم أن أعتبهم من كلّ ما يكرهون، وأعطيهم الحقّ من نفسي وغيري، وإن كان في ذلك سفك دمى. » فراسله عليّ بأنّ: « الناس إلى عدلك! أحوج منهم إلى قتلك، وإني لأرى قوما لا يرضون إلّا بالرضا، وقد كنت أعطيتهم في المرة الأولى من العهود ما نقضته، ولم تف به لهم. » فقال عثمان: « أعطهم اليوم ما يحبّون، فوالله لأفينّ. » فخرج عليّ إلى الناس، فقال: « أيها الناس! إنّكم إنّما طلبتم الحقّ وقد أعطيتموه. إنّ عثمان يزعم أنه منصفكم من نفسه ومن غيره، وراجع عن جميع ما تكرهون، فاقبلوا منه. » قال الناس: « قد قبلنا، فاستوثق لنا، فإنّا لا نرضى بقول دون فعل. » فقال عليّ: « ذلك لكم. » وأخبر عثمان الخبر، فقال عثمان: « اضرب بيني وبينهم أجلا تكون لي فيه مهلة، فإني لا أقدر على ردّ ما كرهوا في يوم واحد. » فقال عليّ: « ما حضر بالمدينة فلا أجل فيه، وما غاب، فأجله وصول أمرك. » قال: « نعم، ولكن أجّلنى في ما في المدينة ثلاثة أيام. » فقال عليّ: « نعم. » فخرج عليّ، وكتب بينهم وبين عثمان كتابا على الأجل، شرط فيه أن يردّ كل مظلمة، ويعزل كلّ عامل كرهه المسلمون، ثم أخذ عليه في الكتاب أعظم ما أخذ الله على أحد من خلقه من عهد أو ميثاق، وأشهد ناسا من وجوه المهاجرين والأنصار. فكفّ المسلمون عنه، ورجوا أن يفي لهم بما أعطاهم.