عائشة تريد طلحة

ولمّا هرب بنو أمية لحقوا بمكّة، فاجتمعوا إلى عائشة، وكانوا ينتظرون أن يلي الأمر طلحة، لأن هوى عائشة كان معه، وكانت من قبل تشنّع على عثمان، وتحضّ عليه، وتخرج راكبة بغلة رسول الله ومعها قميصه وتقول: « هذا قميص رسول الله ما بلى وقد بلى دينه، اقتلوا نعثلا، قتل الله نعثلا. » فلما صار الأمر إلى عليّ كرهته وعادت إلى مكة بعد أن كانت متوجّهة إلى المدينة، ونادت: « ألا، إنّ الخليفة قتل مظلوما، فاطلبوا بدم عثمان. »
من استجاب لعائشة ومن اعتزل

فأوّل من استجاب لها عبد الله بن عامر، ثم قام سعيد بن العاص والوليد بن عقبة وسائر بنى أمية. وكان قدم عبد الله بن عامر قريبا، ويعلي بن أمية من اليمن، واجتمع رأيهم بعد نظر طويل، وخطاب كثير، على البصرة، وقالوا: « معاوية قد كفاكم الشام. » وكان مع يعلى ستمائة بعير، وستمائة ألف درهم، فأنفقهما في ذلك الوجه، وشتموا عبد الله بن عامر، وقالوا: « لا أنت مسالم ولا أنت محارب، هلّا أقمت بالبصرة فمنعت حوزتك كما منع معاوية، أو هلّا أرفدتنا اليوم بمالك كما فعل يعلي بن أمية. » فتكلّم بما لم يرضوه في جوابهم. وسأل الناس غير عائشة من أزواج النبي فأرادت حفصة الخروج، فأتاه عبد الله بن عمر بن الخطّاب، فطلب إليها أن تقعد، فقعدت. وبعثت أمّ الفضل بنت الحارث بن عبد المطّلب رجلا من جهينة، واستأجرته على أن يطوى ويأتى عليّا بكتابها، فقدم من جهتها بالخبر على عليّ. فأما المغيرة بن شعبة وسعيد بن العاص، فإنّهما خرجا من مكة مرحلة مع القوم، ثم تشاوروا. فقال المغيرة: « عندي أنّ الرأي لنا أن نعتزل الجميع، فأيّهم أظفره الله أتيناه وقلنا: كان هوانا معك وصغونا إليك. » فاعتزلا وعادا إلى مكة ومعهما غيرهما.
موقف آخر لسعيد بن العاص

ويقال: إنّ سعيد بن العاص أتى طلحة والزبير فقال: « إن ظفرتما، لمن يكون الأمر؟ » قالا: « لأحدنا، أيّنا رضيه المسلمون. » قال: « لا، بل اجعلوه لولد عثمان، فإنكم خرجتم تطلبون بدمه. » قالا: لا والله، ما ندع مشايخ المهاجرين والأنصار ونجعل الخلافة في أبنائهم. » فقال: « ما أرانى أسعى إلّا في إخراجها من ولد عبد مناف. »
سؤال وتنازع حول الإمرة

فرجع مع من رجع، واستمرّ بالقوم المسير. فلما نزلوا ذات عرق أذّن مروان، ثم جاء حتى وقف عليهما، فقال: « على أيّكما أسلّم بالإمرة وأؤذّن بالصلاة؟ » فقال ابن الزبير: « على أبي. » وقال ابن طلحة: « على أبي. » وتنازعا. فأرسلت عائشة إلى مروان: « ما لك يا مروان! تريد أن تفرّق جماعتنا، ليصلّ ابن أختى بالناس. » فكان يصلّى بهم عبد الله بن الزبير حتى قدموا البصرة. فكانوا يقولون: « لو ظفرنا لافتتنّا، وما كان ليخلّى الزبيريّون الأمر لطلحة، ولا الطلحيون الأمر للزبير. » وإنّ عليّا تجهّز في من خفّ معه، يبادرهم ليعترض عليهم دون البصرة، وخرج معه تسعمائة رجل في التعبئة التي كان تعبّأ بها إلى الشام، حتى انتهى إلى الربذة، وبلغه ممرّهم وقد فاتوه. فأقام هناك يأتمر.
اتفاق في ذلك الوجه

فمما اتفق في ذلك الوجه، أنّ صاحب الجمل - الذي يقال له: « عسكر » وخبره مشهور - حكى أنه: لما اشترى منه الجمل بحكمه وركبته عائشة سألوه عن الطريق، وهل هو خبر؟
قال، فقلت: « أنا أهدى من القطا. » فأعطونى دنانير، وتقدّمتهم، وكانوا يسألوننى عن كلّ ماء، حتى نزلوا الحوءب، فكان الحديث المشهور، فبينا نحن كذلك، إذا بابن الزبير يركض وينادى: « أدرككم عليّ بن أبي طالب، النجا النجا. » وشتموني ورحلوا، وانصرفت. فما سرت إلّا قليلا حتى لقيت عليّ بن أبي طالب ومعه ركب، فقال: « عليّ بالراكب. » فأتيته. فقال: « أين لقيت الظعينة؟ » فقلت: « مكان كذا، وقد بعتهم جملي وأعطونى ناقتها وهي هذه تحتي، وأعطونى كيت وكيت. » قال: « وقد ركبته؟ » قلت: « نعم. وسرت معهم إلى الحوءب وكان من أمرهم كذا وكذا، وارتحلوا وأقبلت. » قال عليّ: « فهل لك دلالة بذي قار؟ » قلت: « نعم. » قال: « سر معنا. »
علي يستشير الناس والحسن يذكر له ما كان قد أشار به عليه قبل

فسرنا حتى نزلنا بذي قار. فأمر عليّ بجوالقين، فضمّ أحدهما إلى صاحبه، ثم جيء برحل، فوضع عليه، ثم صعد عليه، وخطب الناس وأعلمهم الخبر. ثم استشارهم، فقام الحسن، فبكى، وقال: « أشرت عليك فعصيتني، فتقتل غدا بمضيعة لا ناصر لك. »
فقال له عليّ: « إنّك لا تزال تحنّ حنين الجارية، وما الذي أشرت به عليّ فعصيتك؟ تكلّم به ليسمعه الناس. » قال: « كنت قلت لك يوم أحيط بعثمان: أن تخرج من المدينة فلا تشهد قتله فأبيت. وقلت لك يوم قتل: لا تبايع حتى يأتيك وفود العرب وبيعة أهل الأمصار، فأبيت. ثم قلت لك حين فعل الرجلان ما فعلا أن: تجلس في بيتك حتى يصطلح الناس، فإن كان فساد كان على يدي غيرك فعصيتني في ذلك كلّه. » فقال: « أى بنيّ! أمّا قولك: لو خرجت من المدينة، فوالله لقد أحيط بنا كما أحيط به. « وأمّا قولك: انتظره حتى يأتيك الوفود وأهل الأمصار، فإنّ الأمر أمر أهل المدينة، وعقدهم جائز على المسلمين، وكرهنا أن نضيع هذا الأمر فتكون فتنة. » « وأمّا قولك حين خرج طلحة والزبير أن اجلس في بيتك، فإنّ ذلك كان وهنا على أهل الإسلام لو فعلته. وو الله ما زلت مقهورا منذ ولدت، منقوصا لا أصل إلى حقّى، ولا إلى شيء مما ينبغي لي. » « وأما قولك: اجلس في بيتك، فكيف لي بما لزمني؟ أتريد أن أكون كالضبع التي يحاط بها ويقال: داب داب، أمّ عامر ليست هاهنا، حتى يحلّ عرقوباها. إذا لم أنظر في ما لزمني ويعنيني فمن ينظر فيه. » فكفّ عليك يا بنيّ. إنّ النبي قبض وما أرى أحقّ بهذا الأمر مني، فبايع الناس أبا بكر، فبايعت كما بايعوا. ثم هلك أبو بكر وما أرى أحقّ بهذا الأمر مني، فبايع الناس عمر، فبايعت كما بايعوا. ثم هلك عمر وما أرى أحقّ بهذا الأمر مني، فجعلني سهما من ستة أسهم. ثم عدل عني إلى عثمان، فبايعت كما بايع الناس. ثم سار الناس إلى عثمان، فقتلوه، وأتوني طائعين غير مكرهين، فبايعوني. فأنا مقاتل بمن اتبعني من خالفني حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين. » ولما قربت عائشة ومن معها من البصرة قدّمت عبد الله بن عامر وقالت: « أنت لك صنائع فاذهب إلى صنائعك، فليلقوا الناس. » وكتبت إلى رجال البصرة كالأحنف بن قيس وضبرة بن شيمان ووجوه الناس، وأقامت بالحفير تنتظر الجواب.
عثمان بن حنيف يبعث رسولين إلى عائشة وطلحة والزبير

ولما بلغ الخبر البصرة دعا عثمان بن حنيف عمران بن الحصين، وكان رجل عامة، وأبا الأسود الدئلي وكان رجل خاصّة وقال: « انطلقا إلى هذه المرأة واعلما علمها وعلم من معها. » فانتهيا إليها والناس بالحفير، واستأذنا فأذن لهما، فسلّما وقالا: « إنّ أميرنا بعثنا إليك نسألك عن مسيرك، فهل أنت مخبرتنا؟ » فقالت: « والله ما مثلي يسير بالأمر المكتوم، ولا يمئى لبنيه الخبر، [ إنّ الغوغاء ]، ونزّاع القبائل غزوا حرم رسول الله، ونالوا من قتل الامام، ما استحقّوا به لعنة الله، وفعلوا وفعلوا. فخرجت في المسلمين إلى هذا المصر، لأعلمهم ما فيه الناس وراءنا، وما ينبغي لهم بأن يأتوه من الإصلاح، وقرأت: لا خير في كثير من نجواهم إلّا من أمر بصدقة، أو إصلاح بين النّاس، فهذا شأننا، نأمركم بالمعروف ونحضّكم عليه، وننهاكم عن منكر، ونحثّكم على تغييره. » فخرجا من عندها، وأتيا طلحة، فقالا ما قالا لعائشة وسألاه: ما الذي أقدمه؟ قال: « الطلب بدم عثمان. » قالا: « ألم تبايع عليّا؟ » قال: « بلى، واللّجّ في عنقي، وما أستقيل عليّا، إن هو لم يحل بيننا وبين قتلة عثمان. » ثم أتيا الزبير، فقالا: « ما أقدمك؟ » قال: « الطلب بدم عثمان. » قالا: « ألم تبايع عليّا؟ » قال: « بلى، واللّجّ في عنقي، وما أستقيل عليّا إن لم يحام على قتلة عثمان. » ومضى الرجلان، حتى دخلا على عثمان بن حنيف. فبدر أبو الأسود عمران وأنشد: