ما يحفظ من كلام الأحنف في الاعتزال وحض الناس عليه

إنّه لما رجع من عند عليّ لقيه هلال بن وكيع، وهو سيّد رهطه، فقال: « ما رأيك؟ » قال: « مكاتفة أمّ المؤمنين. أفتدعنا؟ وتعزل عنّا؟ وأنت سيّدنا؟ » قال: « إنّما أكون سيدكم غدا إذا قتلت وبقيت. » فقال هلال: « سبحان الله، تقول هذا وأنت شيخنا؟ » فقال: « أنا الشيخ المعصيّ وأنت الشابّ المطاع. » ولما ابتدأ القتال قال عليّ لأصحابه ابتداء القتال: « أيكم يعرض عليهم هذا المصحف ويدعوهم إلى ما فيه، فإن قطعت يده أخذه بيده الأخرى، فإن قطعت أخذه بأسنانه؟ » فقال فتى شابّ: « أنا. » فطاف على أصحابه يعرض ذلك عليهم، فلم يقبله إلّا ذاك الفتى.
فقال له عليّ: « اعرض عليهم هذا وقل: هو بيننا وبينكم من أوّله إلى آخره، فالله الله في دمائنا ودمائكم. » فحمل القوم على الفتى وبيده المصحف، فقطعت يداه، فأخذه بأسنانه حتى قتل. فقال عليّ لأصحابه: « قد طاب لكم الضراب. » فقاتلوهم، فالتحمت الحرب، واشتدّ القتال إلى العصر. ثم انهزم أصحاب الجمل وعائشة يومئذ في هودجها على الجمل الذي يقال له: « عسكر ». وانهزم الزبير نحو وادي السباع، وتشاغل الناس عنه، واتبعه قوم. فلما رأى الفرسان تتبعه، كرّ عليهم. فلما عرفوه رجعوا عنه، وتركوه. وكان عليّ وصّاهم ألّا يتبعوا مدبرا، ولا يجهزوا على جريح.
وأصاب طلحة سهم، فشكّ ركبته بصفحة الفرس، فامتلأ موزجه دما وضعف.
فانتهى إلى القعقاع في نفر وهو يقول: « إليّ عباد الله! الصبر الصبر. »
فقال له: « يا با محمد! إنك لجريح، وإنك عما تريد لعليل، فادخل الأبيات. » فقال: « يا غلام! أدخلنى، وأبغنى مكانا. » فأدخل ومعه غلام ورجلان. واقتتل الناس بعده، وأقبل الناس في هزيمتهم.
فلما انتهوا إلى الجمل، عادوا قلبا كما كانوا حيث التقوا، وعادوا في أمر جديد، ووقفت الميمنة والميسرة.
وقالت عائشة لكعب بن سور وهو آخذ خطام الجمل: « يا كعب: خلّ عن البعير، وتقدّم بكتاب الله، فادعهم إليه. » ودفعت إليهم مصحفا. فاستقبلهم بالمصحف.
وكانت السبائية أمام الناس يخافون أن يجرى الصلح. فاستقبلهم كعب بالمصحف، وعليّ يزعهم، ويأبون إلّا إقداما، فرشقوا كعبا رشقا واحدا، فقتلوه، ورموا الهودج. فجعلت عائشة تنادي: « البقية، البقية يا نبي الله! » فيأبون إلّا إقداما.
أول ما أحدثته عائشة

فكان أول ما أحدثته عائشة حين رأت الناس يأبون إلّا قتالها أن قالت: « أيها الناس! العنوا قتلة عثمان وأشياعهم. » وأقبلت تدعو، وضجّ أهل البصرة بالدعاء. وسمع عليّ الدعاء، فقال: « ما هذه الضجّة؟ » قالوا: « عائشة تدعو ويدعون معها على قتلة عثمان. » فأقبل عليّ يدعو ويقول: « اللهمّ العن قتلة عثمان وأشياعهم. »
وذمرت عائشة الناس لما رأت أنّ الناس لا يريدون غيرها ولا يكفّون.
فازدلفت مضر البصرة، فقصفت مضر الكوفة حتى زوحم عليّ. فكانت الحرب صبيحة هذا اليوم مع طلحة والزبير، فلما انهزم الزبير، وأصيب طلحة، وذلك بعد الظهر، صارت الحرب مع عائشة.
قال محمد بن الحنفية: دفع أبي إليّ اللواء، وقال: « احمل! » فحملت حتى لم أر موضعا لحملة - وقد كان زوحم عليّ.
فنخس عليّ قفا محمد، وقال: « تقدّم! » وقال: فلم أجد متقدما إلّا على سنان فقلت: « لا أجد متقدّما. » فتناول الرمح من يدي متناول لا أدري من هو. فنظرت، فإذا أبي بين يديّ. و [ اقتتلت ] المجنّبتان حين تزاحفتا قتالا يشبه ما فيه القلبان، وارتجز الفرسان، وكثر القتلى وتنادى الكماة في عسكر عليّ وعسكر عائشة، لما رأوا الصبر الشديد: « يا أيها الناس! طرّفوا إذا فرغ الصبر ونزع النصر. » فجعلوا يتوخّون الأطراف: الأيدى والأرجل، فما رأيت وقعة قطّ قبلها ولا بعدها، ولا سمع بها، أكثر يدا مقطوعة ورجلا مقطوعة منها، لا يدرى صاحبها.
فكان الرجل من هؤلاء وهؤلاء إذا أصيب بشيء من أطرافه استقتل [ إلى أن يقتل ].
ونادت عائشة من هودجها بصوت عال فيه كسرة: « إيه، لله أنتم. جالدوا جلادا يتفادى منه، بخّ بخّ، سيوف أبطحية، وسيوف قرشية. » ونادت بنو ضبّة: « ويها جمرة الجمرات. » وأحدقوا بجملها حتى أسرع فيهم القتل ورقّوا. وكانت عائشة تقول: « ما زال رأس الجمل معتدلا حتى قتلت بنو ضبّة حولي. » وضربوا ضربا ليس بالتقدير، حتى إذا كثر القتلى وظهر في العسكر التطريف كره بعضهم بعضا، وارتدّت المجنّبتان، فصارتا في القلب. ثم تلاقوا جميعا بقلبيهم. فأخذ ابن يثربى برأس الجمل، وارتجز وادّعى قتل علباء بن الهيثم، وزيد بن صوحان، وهند بن عمرو، فقال:
أنا لمن ينكرنى ابن يثربى ** قاتل علباء وهند الجمل
وزيد صوحان على دين عليّ
فناداه عمار: « لقد لذت بحريز وما إليك من سبيل، فإن كنت صادقا فاخرج من هذه الكتيبة إليّ. » فترك الزمام، وبرز حتى كان بين صفّ عائشة وصفّ عليّ، وأقبل إليه عمار، وهو يومئذ ابن تسعين سنة وقد شدّ وسطه بحبل، وعليه فرو. فضربه ابن يثربى فنحا له درقته، فنشب السيف فيها، وأسفّ عمار لرجليه، فضربه فقطعما، فوقع على استه، وحماه أصحابه فارتثّ بعد، فأتى به عليّ بن أبي طالب. فقال: « استبقني يا أمير المؤمنين. » فقال: « بعد ثلاثة تضرب وجوههم بسيفك؟ » وأمر به، فضربت عنقه.
وتتابع الناس على زمام الجمل حتى قتل أربعون رجلا يرتجزون ويأخذون الخطام فيقتلون. فحدّث عبد الله بن الزبير قال: أمسيت يوم الجمل وبي سبع وثلاثون جراحة من طعنة وضربة، وما رأيت مثل يوم الجمل قطّ، ما ينهزم منّا أحد وما يأخذ بخطام الجمل أحد إلّا قتل.
فأخذت بالخطام، فقالت عائشة: « من أنت؟ » قلت: « ابن الزبير. » قالت: « وثكل أسماء. » ومرّ بي الأشتر، فعرفته، وعانقته، وسقطنا جميعا، وناديت: « اقتلوني ومالكا. » فجاء ناس منّا، فقاتلوا عنّا حتى تحاجزنا، وضاع مني الخطام. فسمعت عليّا وهو ينادى: « اعقروا الجمل، فإنّه إن عقر تفرّقوا. » فضربه رجل، فسقط، فما سمعت قطّ أشدّ من عجيج الجمل.
وفي رواية أبي بكر بن عيّاش عن علقمة أنه قال: قلت للأشتر: « قد كنت كارها لقتل عثمان، فما أخرجك بالبصرة؟ » قال: « إنّ هؤلاء بايعوه، ثم نكثوا، وكان ابن الزبير هو الذي هزّ عائشة على الخروج، فكنت أدعو الله أن يلقّينيه، فلقيني كفّة لكفّة. فما رضيت لشدّة ساعدي أن قمت في الركاب، فضربته ضربة على رأسه فصرعته. » قلت: « فهو القائل: اقتلوني ومالكا؟ » قال: « لا. ما تركته وفي نفسي منه شيء. ذاك عبد الرحمن بن عتّاب بن أسيد، لقيني، فاختلفنا ضربتين، فصرعنى وصرعته، فجعل يقول: نحن مصطرعون، اقتلوني ومالكا، والناس لا يعلمون من مالك، فلو يعلمون لقتلوني. » ثم قال أبو بكر بن عيّاش: « هذا كأنك شاهده. » وتحدّث عوف بن أبي رجاء قال: رأيت رجلا قد اصطلمت أذنه فقلت: « أخلقة، أم شيء أصابك؟ » قال: « أحدّثك: بينا أنا امشى بين القتلى يوم الجمل، فإذا رجل يفحص برجله، وهو يقول:
لقد أوردتنا حومة الموت أمّنا ** ولم ننصرف إلّا ونحن رواء
قال: قلت: « يا عبد الله قل: لا إله إلّا الله. » قال: « أدن مني، ولقّنّى، فإنّ في أذنى وقرا. » قال: فدنوت منه، فقال لي: « ممن أنت؟ » قلت: « رجل من أهل الكوفة. » قال:
فوثب عليّ، واصطلم أذنى كما ترى وقال: « إذا رجعت إلى أمّك، فأخبرها أن عمير بن الأهلب الضبي فعل بك هذا. » وتمام أبيات عمير بن الأهلب:
أطعنا بنى تيم بن مرّة شقوة ** وهل تيم إلّا أعبد وإماء
لقد كان عن نصر ابن ضبّة أمّه ** وشيعتها مندوحة وغناء
وروي عن الصعب بن عطيّة قال: كان منّا رجل يدعى الحارث، قال يومئذ: « يا آل مضر، علام نقتل بعضنا بعضا؟ » فنادوا: « لا ندري، إلّا أنّا إلى قضاء. » وما يكفّون.
وقال القعقاع بعد ذلك: ما رأيت شيئا أشبه بشيء من قتال القلب يوم الجمل بقتال صفّين. لقد رأيتنا ندافعهم بأسنّتنا، ونتكئ على أزجّتنا، وهم مثل ذلك، حتى لو أنّ الرجال مشت عليها لاستقلّت بهم.
وقال عبد الله بن سنان الكاهلي: لما كان يوم الجمل ترامينا بالنبل حتى [ فنيت ] وتطاعنّا بالرماح حتى تشبّكت في صدورنا وصدورهم، حتى لو سيّرت عليها الخيل لسارت. ثم قال عليّ: « السيوف يا أبناء المهاجرين. » قال الشيخ: فما دخلت دار الوليد بالبصرة وسمعت صوت القصّارين يضربون إلّا ذكرت ذلك اليوم، وما شبّهت هودج عائشة إلّا بالقنفذ.