خطبة يزيد بن قيس الأرحبى

وخطب يزيد بن قيس الأرحبي، فقال بعد حمد الله:
« إنّ هؤلاء القوم، والله، لا يقاتلوننا على إقامة دين رأونا ضيّعناه، وإحياء حقّ رأونا أمتناه، ولن يقاتلونا إلّا على هذه الدنيا ليكونوا جبابرة فيها ملوكا. فلو ظهروا عليكم - ولا أراهم الله ذلك - لزموكم بمثل سعيد، والوليد، وعبد الله بن عامر السفيه الضالّ، يجيز أحدهم في مجلسه بمثل ديته ودية أبيه وجدّه، ثم يقول: « هذا لي، ولا إثم عليّ »! كأنّما أعطى تراثه عن أبيه وأمّه! وإنما هو مال الله أفاءه الله علينا. فقاتلوا - عباد الله - القوم الظالمين الحاكمين بغير ما أنزل الله، ولا تأخذكم في جهادهم لومة لائم، فإنّهم من عرفتم وخبرتم. والله ما ازدادوا إلى يومهم هذا إلّا شرّا. »
ابن بديل ينتهى إلى قبة معاوية

وقاتلهم عبد الله بن بديل في الميمنة حتى انتهى إلى قبّة معاوية. ثم إنّ الذين تبايعوا على الموت، أقبلوا إلى معاوية، فأمرهم أن يصمدوا لابن بديل.
وبعث حبيب بن مسلمة في ميسرته، فحمل بهم وبمن كان معه على ميمنة الناس، فهزمهم، وانكشف أهل العراق من قبل الميمنة حتى لم يبق منهم إلّا ابن بديل في مائتين إلى الثلاثمائة من القرّاء قد أسند بعضهم على بعض ظهره، وانجفل الناس.
فأمر عليّ سهل بن حنيف، فاستقدم في من كان معه من أهل المدينة، فاستقبلتهم جموع لأهل الشام عظيمة، فاحتملتهم حتى ألحقتهم بالميمنة إلى موقف عليّ في القلب، فمرّ عليّ ومعه بنوه نحو الميسرة.
قال: فوالله، إني لأرى النبل يمرّ بين عاتقه ومنكبه، وما من بنيه واحد إلّا يقيه بنفسه، فيتقدّم فيحول بين اهل الشام وبينه، فيأخذه بيده إذا فعل ذلك فيلقيه بين يديه أو من ورائه. فبصر به أحمر مولى أبي سفيان أو عثمان، فعرفه.
فقال عليّ: « وربّ الكعبة، قتلني الله إن لم أقتلك أو تقتلني. »
كلام بين علي والحسن أثناء القتال

فأقبل نحوه، وخرج إليه كيسان مولى عليّ، فاختلفا ضربتين، فقتله مولى بنى أمية، وينتهزه عليّ، فتقع يده في جيب درعه، فجبذه، ثم حمله على عاتقه. فكأني أنظر إلى رجليه تختلفان على عنق عليّ، ثم ضرب به الأرض، فكسر منكبه وعضده، وشدّ ابنا عليّ: الحسين ومحمد عليه، فضرباه بأسيافهما، حتى إذا قتلاه، أقبلا إلى أبيهما والحسن قائم معه.
قال له: « يا بنيّ، ما منعك أن تفعل كما يفعل أخواك؟ » فقال: « كفيانى يا أمير المؤمنين! » ثم إن أهل الشام دنوا منه، فوالله ما يزيده قربهم منه سرعة في مشيه.
فقال له الحسن: « ما ضرّك لو سعيت حتى تنتهي إلى هؤلاء الذين قد صبروا لعدوّك من أصحابك؟ » فقال: « يا بنيّ، إنّ لأبيك يوما لا يعدوه، ولا يبطئ به السعى، ولا يعجل به اليه المشي، وإنّ أباك لا يبالى: وقع على الموت، أو وقع عليه الموت. »
مالك يحض المنهزمين على الصمود

ولما أقبل عليّ نحو الميسرة، مرّ به الأشتر يركض نحو الفزع قبل الميمنة. فقال له عليّ: « يا مال! » قال: « لبيك يا أمير المؤمنين! » قال: « ائت هؤلاء، فقل لهم: أين فراركم من الموت الذي لا تعجزونه، إلى الحياة التي لا تبقى لكم؟ » فمضى، واستقبل الناس منهزمين، فقال لهم هذه الكلمات التي أمره عليّ بها.
ثم قال: « إليّ، أيها الناس إليّ! أنا مالك بن الحارث.. » ثم ظنّ أنه بالأشتر أعرف في الناس، فقال: « أنا الأشتر، إليّ، إليّ! » فأقبلت طائفة إليه وذهبت عنه طائفة، فقال: « عضضتم بهَنِ آبائكم، ما أقبح ما قاتلتم منذ اليوم! يا أيها الناس، أخلصوا إلى مذحجا. » فأقبلت مذحج، فقال: « عضضتم بصمّ الجندل، ما أرضيتم ربكم، ولا نصحتم له في عدوكم، وكيف ذلك وأنتم أبناء الحرب، وأصحاب الغارات وفتيان الصباح، وفرسان الطراد، وحتوف الأقران، ومذحج الطعان الذين لم يكونوا يسبقون بثأرهم، ولا تطلّ دماؤهم، ولم تعرفوا في موطن بخسف، فأنتم حدّ أهل مصركم، وما تفعلوا في هذا اليوم فإنّه مأثور بعد اليوم، فاتقوا مأثور الحديث، واصدقوا عدوكم اللقاء، فإنّ الله مع الصادقين. فو الذي نفس مالك بيده، ما من هؤلاء - وأشار بيده إلى أهل الشام - [ رجل ] على مثل جناح بعوضة من محمد إنكم ما أحسنتم القراع، فاجلوا سواد وجهى يرجع في وجهى دمى. عليكم بهذا السواد الأعظم، فإنّ الله لو قد فضّه تبعه من بجانبيه كما تبع مؤخّر السيل مقدّمه. » قالوا: « خذ بنا حيث أحببت. » فصمد نحو عظمهم مما يلي الميمنة، وأخذ يزحف إليهم ويردّهم، ويستقبله شباب من همدان، وكانت همدان يومئذ ثمانمائة مقاتل. فانهزموا آخر الناس، وكانوا صبروا في الميمنة، حتى أصيب منهم مائة وثمانون رجلا، وقتل منهم أحد عشر رئيسا يتتابعون على الراية. فمرّوا بالأشتر وهم يقولون: « ليت لنا عدّتنا من العرب يحالفوننا على الموت، ثم نستقدم نحن وهم، فلا ننصرف حتى نقتل أو نظهر. » فقال لهم الأشتر: « إليّ، أنا أخالفكم وأعاقدكم على أن لا نرجع أبدا حتى نظفر أو نهلك. » فأتوه، فوقفوا معه، وزحف الأشتر، وثاب إليه الناس، وأخذ لا يصمد لكتيبة إلّا كشفها، وبيده صفيحة يمانية إذا طأطأها خلت فيها ماء منصبّا، وإذا رفعها كاد يغشى البصر شعاعها، وجعل يضرب بسيفه ويقول: « الغمرات ثم ينجلينا. » فبصر به الحارث بن جهمان والأشتر مقنّع في الحديد، فلم يعرفه. فدنا منه وقال: « جزاك الله خيرا منذ اليوم عن أمير المؤمنين وجماعة المسلمين. » فعرفه الأشتر فقال: « يا ابن جهمان، إنّ مثلك لا يتخلّف عن مثل مواطنى هذا [ الذي أنا فيه ]. » فعرفه ابن جهمان لما تكلّم، وكان من أعظم الرجال وأطولهم، فقال له: « جعلت فداك، لا والله، ما علمت بمكانك إلّا الساعة ولا أفارقك حتى الموت. » ورآه منقذ وحمير ابنا قيس الناعطيّان. فقال منقذ لحمير: « ما في العرب مثل هذا إن كان قتاله عن نيّة. » فقال له حمير: « وهل النيّة إلّا ما تراه يصنع. » قال: « إني أخاف أن يكون يحاول ملكا. » وحمل الأشتر في بعض حملاته، فكشف أهل الشام حتى ألحقهم بصفوف معاوية، وذلك بين صلاة العصر والمغرب، وانتهى إلى عبد الله بن بديل، وهو في عصبة من القرّاء بين المائتين إلى الثلاثمائة، وقد لصقوا بالأرض كأنهم جثى، فكشف عنهم أهل الشام، فأبصروا إخوانهم قد دنوا منهم. فقالوا: « ما فعل أمير المؤمنين؟ » قالوا: « حيّ صالح يقاتل في الميسرة، ويقاتل الناس أمامه. » فقالوا: « والحمد لله، قد كنّا ظننّا أن قد هلك وهلكتم. »