ذكر الحال في المدينة

وظهر في المدينة أنّ يزيد بن معاوية يشرب الخمر حتى يترك الصلاة، وصحّ عندهم ذلك، وصحّ غيره ممّا يشبهه، فجعلوا يجتمعون لذلك حتى خلعوه، وبايعوا عبد الله بن حنظلة الغسيل، ووثبوا على عثمان بن محمد بن أبي سفيان ومن معه من بني أمية ومن يرى رأيهم، فنفوهم وكانوا ألف رجل. فخرجوا حتى نزلوا دار مروان بن الحكم، فحاصرهم الناس حصارا ضعيفا، فتولّى تدبيرهم مروان، لأنّ عثمان بن محمد كان غرّا لا يرجع إلى رأيه.
وكتب مروان إلى يزيد كتابا من جماعة بما جرى عليهم ويطلبون الغوث منه.
قال الرسول: فلما وردت على يزيد، قال: « أما تكون بنو أميّة ومواليهم ألف رجل بالمدينة؟ »
قلت: « بلى. »
قال: « فما استطاعوا أن يقاتلوهم ساعة من نهار؟ »
فقلت: « أجمع الناس كلّهم عليهم، فلم تكن لهم بهم طاقة. »
فكتب إلى عبيد الله بن زياد أن اغز ابن الزبير، فقال: « والله لا أجمعهما للفاسق أبدا: أقتل ابن رسول الله وأغزو البيت؟ »
وندب مسلم بن عقبة المرّى، وهو شيخ كبير مريض، للمدينة، فخرج ونادى أن: « سيروا إلى الحجاز على أخذ أعطياتكم كملا، ومعونة مائة دينار توضع في يد الرجل من ساعته. » فانتدب له اثنا عشر ألف رجل. ووصّاه يزيد، إذا ظفر، أن ينهب المدينة ثلاثة أيّام، وذلك في سنة ثلاث وستّين.
وكان معاوية وصّى يزيد: « إذا أرابك من أهل المدينة ريب، فارمهم بمسلم بن عقبة. » ولمّا بلغ أهل المدينة خبر مسلم ومن معه، أخذوا على بني أمية المحصورين في دار مروان العهود والمواثيق، ألّا يدلّوا على عورة لهم، ولا يبغونهم غائلة.
وأخرجوهم، فلقوا مسلم بن عقبة بوادي القرى مع أثقالهم، فسأل مسلم عمرو بن عثمان بن عفّان عن القوم واستشاره، فقال: « عليّ عهد ألّا أدلّ على عورة. »
فانتهزه مسلم وقال: « والله، لو لا أنّك ابن عثمان، لضربت عنقك، والله، لا أقيلها قرشيّا بعدك. »
وبلغ ذلك الناس، فهابوه.
وقال مروان لابنه عبد الملك: « ادخل قبلي إلى مسلم لعلّه يجتزى بك مني. »
فدخل عليه عبد الملك، فقال: « هات ما عندك، أخبرني خبر الناس، وكيف ترى؟ »
ذكر رأي عبد الملك وما ظهر من حزمه

قال:
« نعم، أرى أن تسير بمن معك، فتركب هذا الطريق إلى المدينة، حتى إذا انتهيت إلى أدنى نخل بها نزلت، فاستظلّ الناس بظلّه، وأكلوا من صفوه، حتى إذا كان الليل، أذكيت الحرس الليل كلّه عقبا بين أهل عسكرك، حتى إذا أصبحت وصلّيت الصبح، مضيت بهم، وتركت المدينة ذات اليسار، ثم أدرت بالمدينة، حتى تأتيهم من قبل الحرّة مشرّقا، ثم تستقبل القوم، فإذا استقبلتم، أشرقت الشمس عليهم، وطلعت من أكتاف أصحابك، فلا توذيهم، وتقع في وجوههم فتوذيهم، ويرون ما دمتم مشرّقين ايتلاق بيضكم، وحرابكم، وأسنّة رماحكم وسيوفكم ودروعكم وسواعدكم، ما لا ترونه أنتم لشيء من سلاحهم ما داموا مغرّبين، ثم قاتلهم، واستعن الله عليهم. »
فقال له مسلم: « لله أبوك، أيّ امرئ ولد إذ ولدك، لقد رأى بك خلفا. »
ثم إنّ مروان لقيه، فقال له: « إيه. »
فقال: « أليس قد لقيك عبد الملك؟ »
قال: « بلى، وأيّ رجل عبد الملك! [ قلّ ] ما كلّمت من رجال قريش شبيها به. »
وقعة الحرة وإباحة المدينة ثلاثا

ثم ارتحل، وعمل برأى عبد الملك، فكانت وقعة الحرّة، وذلك في سنة ثلاث وستّين، وهي من أعظم الوقائع وأشدّها. هزم فيها مسلم بن عقبة مرارا، وأهل المدينة مرارا، وكثر القتلى في الفريقين، ولم يكن في اقتصاص الحديث بأسره فائدة، إلّا أنّ آخره كان قتل عبد الله بن حنظلة الغسيل، وخلق من أهل المدينة وصالحيهم، وانهزم الناس.
فأباح مسلم المدينة ثلاثا يقتلون الناس ويأخذون الأموال.
بايع أهل المدينة ليزيد بن معاوية على أنهم خول له

وجيء بيزيد بن وهب بن ربيعة - وهو من وجوه قريش - فقال له: « بايع! »
فقال: « أبايع على سنّة أبي بكر وعمر. »
قال: « اقتلوه! »
قال: « فإني أبايع. »
قال: « لا والله! لا أقيلك عثرتك. »
فقام مروان بن الحكم وكلّمه، لصهر كان بينهما، فأمر بمروان، فوجئت عنقه، ثم قال: « بايعوا على أنّكم خول ليزيد بن معاوية. » ثم أمر بقتل يزيد بن وهب.
هذا، وبلغ أهل مكّة ما جرى على أهل المدينة، وما ارتكب منهم. ففتّ ذلك في أعضادهم، وجاءهم منه أمر عظيم، وعرفوا أنّه نازل بهم.