ذكر حيلة مروان بن الحكم التي عادت بهلاكه

فتزوّج مروان أمّ خالد، فدخل يوما على مروان وعنده جماعة كثيرة، فمشى بين الصفّين، فالتفت مروان إلى من حوله، فقال:
« إنه ما علمت لأحمق، تعالى يا بن الرطبة الاست. » يقصّر به ليسقطه من عين الناس.
فرجع إلى أمّه، وبكى بين يديها، وقال:
« خاطبني بحضرة الناس بكذا. » فقالت له أمّه:
« لا تعرّفنّ أحدا، ولا يعرفنّ هو منك، واسكت فإني أكفيكه. » فدخل عليها مروان، وقال لها:
« هل قال لك خالد فيّ شيئا؟ » فأنكرته، وبسطت له وجهها، وقالت:
« وأيّ شيء يقول خالد فيك؟ » ثم مكثت أيّاما حتى أنس مروان، فنام عندها، فغطّته بوسادة وأمسكتها عليه حتى مات.
أيام عبد الملك بن مروان

وكان مروان قبل هلاكه بعث بعثين: أحدهما إلى المدينة، عليهم حبيش بن دلجة، والآخر إلى العراق، عليهم عبيد الله بن زياد.
فأما عبيد الله، فسار حتى نزل الجزيرة، وأتاه الخبر بها بموت مروان، وخرج إليه الشيعة من الكوفة، وهم الذين تسمّوا بالتوّابين، يطلبون بدم الحسين بن عليّ، وسنذكر من أخبار التوّابين وأخبار أهل المدينة، ما يليق ذكره بهذا الكتاب.
خبر التوابين

فأما خبر التوابين، فإنّه لما قتل الحسين بن عليّ، عليهما السلام، اجتمعت الشيعة بالكوفة، ولام بعضها بعضا، ورأوا أنّهم جنوا جناية عظيمة باستدعائهم الحسين إلى الكوفة، ثم تقاعدهم عنه، إلى أن جرى عليه ما جرى، وأنه لا يغسل عنهم هذا العار، ولا يمحو عنهم هذا الإثم، إلّا الخروج والتوبة إلى الله، والطلب بدمه، إلى أن يقتلوا قاتليه أو يقتلوا قبل ذلك.
فاجتمع الكلّ إلى خمسة من الرؤساء، وهم: سليمان بن صرد، والمسيّب بن نجبة، وعبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي، وعبد الله بن وال التميميّ، ورفاعة بن شدّاد البجليّ.
ثم اجتمع هؤلاء الخمسة على سليمان بن صرد، وكانت له صحبة من النبي، ، فرأسوه، وقالوا:
« لا بدّ من رئيس واحد تكون له راية يحفّ بها، ورأى يصدر عنه. » فرضوا بسليمان بن صرد، وخطبهم سليمان خطبة طويلة، قال في آخرها:
« كونوا كتوّابى بني إسرائيل، إذ قال لهم نبيهم: إنكم ظلمتم أنفسكم باتّخاذكم العجل، فتوبوا إلى بارئكم، فاقتلوا أنفسكم، ذلكم خير لكم عند بارئكم. وإني أرى أنّ الله قد سخط عليكم مما أتيتموه في أمر ابن نبيكم، فلا يرضيه شيء أو تبيروا قتلة الحسين، فلا تهابوا الموت، فو الله ما هابه أحد إلّا ذلّ. » وتكلّم كلاما كثيرا يشبه هذا. فقال خالد بن سعد:
« أمّا أنا، فو الله، لو أعلم أنّ قتلى نفسي يخرجني من ذنبي، ويرضى عني ربّى، لقتلتها، ولكن هذا الذي ذكرته من قتل الأنفس إنما أمر به قوم، فأشهد الله ومن حضر، أنّ كلّ مال أملكه، سوى سلاحي الذي أقاتل به، صدقة على المسلمين، أقوّيهم به على قتال القاسطين. » وقام جماعة، فتكلّموا بمثل ذلك.
فقال سليمان:
« حسبكم، من أراد من هذا شيئا، فليأت بماله عبد الله بن وال التيمي، فإذا اجتمع عنده ما يكفى جهّزنا به ذوي الخلّة من أشياعكم. » وكتب سليمان بن صرد إلى المدائن، وبها جماعة من الشيعة، ورأسهم سعد بن حذيفة بن اليمان، بما اجتمع عليه رأى القوم من إخوانهم، وذكّر بمقتل حجر وأصحابه، وبما يقاسيه الشيعة من الذلّ، وحضّهم على التوبة، واستقدمهم.
فلما قرأ سعد بن حذيفة الكتاب على الشيعة الذين كانوا بالمدائن، أجابوه بالسمع والطاعة. فأجاب سليمان بن صرد، بما وجد عند الشيعة من الحرص، وأنهم جادّون ينتظرون الداعي، فإذا جاء الصريخ أقبلنا ولم نعرّج، إن شاء الله.
وكتب سليمان إلى أهل البصرة، وإلى من يتشيع بها بمثل ذلك، فجاءه الجواب بمثل ما أجابه أهل المدائن.
ولم يزل الناس في الاستعداد إلى أن هلك يزيد، وقام بالأمر مروان، ومدة ذلك ثلاث سنين وشهران.
وهلك يزيد، وأمير العراق عبيد الله بن زياد، وهو بالبصرة، وخليفته بالكوفة عمرو بن حريث، واجتمعت الشيعة إلى سليمان بن صرد، وقالوا:
« قد مات هذا الطاغية، وهم اليوم مضطربون مشغولون، فقم بنا نثب على عمرو بن الحريث، ثم نظهر الطلب بدم الحسين، ونتتبع قتلته فنقتلهم، وندعو الناس إلى أهل البيت المدفوعين عن حقوقهم. »
ذكر رأي سليمان بن صرد في ذلك

فلمّا أكثر الناس، وأطالوا عليه، قال لهم سليمان:
« رويدا، لا تعجلوا، إني قد نظرت في ما تذكرون، فرأيت أنّ قتلة الحسين هم أشراف الكوفة، وفرسان العرب، وهم المطالبون بدمه، ومتى علموا ما تريدون علموا أنهم المطلوبون فكانوا أشدّ شيء عليكم. وقد نظرت في من معي منكم، فعلمت أنّهم لو خرجوا لم يدركوا ثأرهم، ولم يشفوا نفوسهم، ولم ينكأوا في عدوّهم، وكانوا لهم جزرا، ولكن بثّوا دعاتكم، فإني أرجو أن يكون الناس أسرع استجابة حيث هلك هذا الطاغية. »
قدوم المختار وما زعم

ففعلوا، وخرجت منهم دعاة يدعون الناس، فاستجاب لهم ناس كثير بعد هلاك يزيد بن معاوية أضعاف من كان استجاب لهم قبل ذلك. فلما كان بعد ذلك، قدم المختار بن أبي عبيد، فزعم أنه من قبل المهديّ محمد بن الحنفيّة يدعوهم إلى الطلب بدم الحسين. فكانت الشيعة قد انقادت لسليمان بن صرد. فكان المختار، إذا خاطب الشيعة، ودعاهم إلى نفسه، قالوا:
« هذا سليمان بن صرد شيخ الشيعة. » فيقول المختار:
« هذا ليس لكم بصاحب، إنما يريد أن يخرج فيقتل نفسه، ويقتلكم. ليس له بصر بالحرب، ولا علم بها. » فلا يقبل منه.
قدوم عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد من قبل ابن الزبير

وقدم الكوفة عبد الله بن يزيد أميرا على حربها وثغرها، وقدم معه من قبل ابن الزبير إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبد الله، أميرا على خراج الكوفة.
فبلغهما أنّ الشيعة خارجة، وأنهم طائفتان: طائفة كثيرة مع سليمان بن صرد، وطائفة يسيرة مع المختار، وأشير على عبد الله بن يزيد أن يجمع الشرطة والمقاتلة ووجوه الناس وينهض إليهم، وقيل له:
« إذا صرت إلى منزله، دعوته، فإن أجابك حبسته، وإن قاتلك، قاتلته وقد جمعت له وعبّأت وهو مغترّ. » وقيل له:
« إن لم تفعل بذاك، خرج عليك، وقد اشتدّت شوكته، وتفاقم أمره. »