ذكر السبب في اشتداد شوكة الخوارج وما كان من أمرهم

لما اشتغل أهل البصرة بالاختلاف الذي كان بين الأزد وربيعة وتميم، بسبب مسعود بن عمرو، وكثرت جموع نافع بن الأزرق، فأقبل حتى دنا من الجسر، فبعث إليه عبد الله بن الحارث مسلم بن عبيس بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس في أهل البصرة، فخرج إليه، فأخذ يحوزه عن البصرة ويرفعه عن أرضها، حتى بلغ مكانا من أرض الأهواز يقال له: دولاب. فتهيّأ الناس بعضهم لبعض وتزاحفوا، فجعل مسلم بن عبيس على ميمنته الحجاج بن باب الحميريّ، وعلى ميسرته حارثة بن بدر التميميّ، وجعل ابن الأزرق على ميمنته عبيدة بن هلال اليشكريّ، وعلى ميسرته الزبير بن الماحوز التميميّ، ثم التقوا، فاضطربوا، واقتتل الناس قتالا لم ير قطّ أشدّ منه، فقتل مسلم بن عبيس أمير أهل البصرة، وقتل نافع بن الأزرق رأس الخوارج، وأمّر أهل البصرة عليهم الحجاج بن باب، وأمّرت الأزارقة عليهم عبد الله بن الماحوز، ثم عادوا، فاقتتلوا أشدّ قتال، فقتل الحجاج بن باب أمير أهل البصرة، وقتل عبد الله بن الماحوز أمير الأزارقة. ثم إنّ أهل البصرة أمّروا عليهم ربيعة بن الأحرم التميمي، وأمّرت الأزارقة عليهم عبيد الله بن الماحوز، ثم عادوا فاقتتلوا حتى أمسوا وقد كره بعضهم بعضا وملّوا القتال. فإنّهم لمتواقفون متحاجزون إذ جاءت الخوارج سريّة لهم جامّة لم تكن شهدت القتال، فحملت على الناس، فانهزموا، وقاتل أمير البصرة ربيعة بن الأحرم، فقتل، وأخذ الراية حارثة بن بدر، فقاتل ساعة وقد ذهب عنه الناس، فقاتل من وراء الناس في حماتهم وأهل الصبر منهم. ثم أقبل بالناس حتى نزل بهم منزلا بالأهواز، وبلغ ذلك أهل البصرة، فهالهم، وراعهم، وامتنع نومهم.
وبعث بن الزبير الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة القرشيّ على تلك الحزّة، فقدم، وعزل عبد الله بن الحارث، فأقبلت الخوارج نحو البصرة ليس دونها كبير مانع.
ذكر اتفاق جيد اتفق لأهل البصرة وهم في تلك الحال

فبينا الناس على حالهم تلك من الخوف والشدّة، إذ قدم المهلّب بن أبي صفرة من قبل عبد الله بن الزبير معه عهده على خراسان.
فقال الأحنف للحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة والناس عامّة:
« أيها الناس، لا والله، ما لهذا الأمر إلّا المهلّب، فاخرجوا بنا إليه نكلّمه. » فخرج ومعه أشراف الناس، فكلّموه في أن يتولّى قتال الخوارج، فقال:
« لا أفعل. هذا عهد أمير المؤمنين معي على خراسان، ولم أكن لأدع وجهى وأقاتل دونكم. » فدعاه ابن أبي ربيعة، فكلّمه في ذلك، فقال له مثل ما قاله للقوم ولم يجبه.
ذكر رأي صحيح وحيلة تمت لأهل البصرة حتى حارب عنهم المهلب

ثم اجتمع الناس، فأداروا بينهم الرأي، فاتّفقوا مع ابن أبي ربيعة، أن يكتبوا على لسان ابن الزبير:
بسم الله الرحمن الرحيم « من عبد الله بن الزبير عبد الله أمير المؤمنين، إلى المهلّب بن أبي صفرة، سلام عليك. فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو.
أما بعد، فإنّ الحارث بن عبد الله كتب إليّ يذكر الأزارقة المارقة، وأنهم أصابوا جندا للمسلمين كان عددهم جمّا، وأشرافهم كثيرا، وذكر أنهم قد أقبلوا نحو البصرة، وقد كنت وجّهتك إلى خراسان، وكتبت لك عليها عهدا، وقد رأيت حيث ذكر أمر هذه المارقة أن تخرج إليهم، وتلى قتالهم، ورجوت أن يكون ميمونا طايرك، مباركا على أهل مصرك، والأجر في ذلك أفضل من المسير إلى خراسان، فسر إليهم راشدا، فقاتل عدوّ الله وعدوّك، ودافع عن حقّك وحقوق أهل مصرك، فإنّه لن يفوتك من سلطاننا خراسان، ولا غير خراسان، إن شاء الله، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. » فأتى المهلّب بذلك الكتاب فقرأه، فلمّا فهمه، قال:
« فإني والله لا أسير إليهم إلّا أن تجعلوا لي ما غلبت عليه، وتعطوني من بيت المال ما أتقوّى به، ومن معي، وأنتخب من فرسان الناس ووجوههم وذوي الشرف من أحببت. » فقال جميع أهل البصرة:
« ذلك لك. » قال: « فاكتبوا على الأخماس بذلك كتابا. » ففعلوا، إلّا ما كان من مالك بن مسمع، وطائفة من بكر بن وائل، فاضطغنها عليهم المهلّب.
فقال الأحنف وعبيد الله بن زياد بن ظبيان وأشراف أهل البصرة للمهلّب:
« وما عليك أن لا يكتب لك مالك بن مسمع، ولا من تابعه من أصحابه إذا أعطاك الذي أردت جميع أهل البصرة، وهل يستطيع مالك خلاف جماعة الناس، أو له ذلك؟ انكمش أيها الرجل، واعزم على أمرك، وسر إلى عدوّك. » ففعل ذلك المهلّب، وأمّر على الأخماس. فأمّر عبيد الله بن زياد بن ظبيان على خمس بكر بن وائل، وأمّر الحريش بن هلال السعدي على خمس بنى تميم.
وجاءت الخوارج حتى انتهت إلى الجسر الأصغر عليهم عبيد الله بن الماحوز، فخرج إليهم المهلّب في أشراف الناس وفرسانهم ووجوههم، فحاربهم عن الجسر ودفعهم عنه، فكان أوّل شيء دفعهم عنه البصرة، ولم يكن بقي لهم إلّا أن يدخلوها، فارتفعوا إلى الجسر الأكبر. ثم عبّى لهم، فسار في الخيل والرجال، فلما رأوا أن قد أظلّ عليهم وانتهى إليهم ارتفعوا فوق ذلك مرحلة أخرى، فلم يزل يحوزهم مرحلة بعد مرحلة، ومنزلة بعد منزلة، حتى انتهوا إلى منزل من منازل الأهواز يقال له: سلّى وسلّبرى، فأقاموا به.
ولما بلغ حارثة بن بدر الغدانى أنّ المهلّب قد أمّر على قتال الأزارقة، قال لمن اتبعه وبقي معه من الناس:
كرنبوا ودولبوا ** وحيث شئتم فاذهبوا
قد أمّر المهلّب
فأقبل من كان معه نحو البصرة، فصرفهم الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة إلى المهلّب. ولما نزل المهلّب بالقوم، خندق عليه، ووضع المسالح، وأذكى العيون، وأقام الأحراس، ولم يزل الجند على مصافّهم والناس على راياتهم وأخماسهم، وأبواب الخنادق عليها رجال موكّلون بها، فكانت الخوارج إذا أرادوا بيات المهلّب وجدوا أمرا محكما وثيقا شديدا، فرجعوا ولم يقابلهم انسان قطّ كان أشدّ عليهم منه، ولا أغيظ لقلوبهم منه.
فمن ذلك أنهم بعثوا عبيدة بن هلال والزبير بن الماحوز في خيلين عظيمين ليلا إلى معسكر المهلّب، فجاء الزبير من جانبه الأيمن، وعبيدة من جانبه الأيسر، ثم كبّروا وصاحوا بالناس، فوجدوهم على تعبئتهم ومصافّهم حذرين معدّين.
فلما ذهبوا ليرجعوا، ناداهم عبيد الله بن زياد بن ظبيان، فقال:
وجدتمونا وقرا أنجادا ** لا كشفا خورا ولا أوغادا
فردّوا عليه وتشاتموا. فلما أصبح الناس أخرجهم المهلّب على تعبئتهم، وأخماسهم، ومواقفهم، وخرجت الخوارج على مثل ذلك من التعبئة، إلّا أنّهم أحسن عدّة، وأكرم خيولا، وأكثر سلاحا من أهل البصرة، وذلك أنّهم مخروا الأرض وجرّدوها، وأكلوا ما بين كرمان إلى الأهواز، فجاءوا وعليهم مغافر تضرب إلى صدورهم، وعليهم دروع يسحبونها، وسوق من زرد يشدّونها بكلاليب الحديد إلى مناطقهم، والتقى الناس، وقاتلوا كأشدّ القتال، فصبر بعضهم لبعض عامّة النهار.
ثم إنّ الخوارج شدّت على الناس أجمعها شدّة منكرة، فأجفل الناس وانصاعوا منهزمين لا يلوى امرؤ على ولد، حتى بلغ البصرة هزيمة الناس، وخافوا السبي، وأسرع المهلّب حتى سبقهم إلى مكان يفاع في جانب سنن المنهزمين، ثم نادى الناس:
« إليّ إليّ عباد الله! » فثاب إليه جماعة من قومه، وثاب إليه سارية بن عمان، حتى اجتمع إليه نحو من ثلاثة آلاف رجل. فلما نظر إلى من اجتمع، رضى جماعتهم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
« أما بعد، فإنّ الله يكل الجمع الكثير إلى أنفسهم فيهزمون، وينزل النصر على الجمع اليسير فيظهرون، ولعمري ما بكم الآن من قلّة، إني لجماعتكم لراض، ولأنتم والله أهل الصبر وفرسان أهل المصر، وما أحبّ أنّ أحدا ممن انهزم معكم.
لو كانوا فيكم ما زادوكم إلّا خبالا. عزمت على كلّ امرئ منكم لمّا أخذ عشرة أحجار معه، ثم امشوا بنا نحو معسكرهم، فإنهم الآن آمنون وقد خرجت خيلهم في طلب إخوانكم، فو الله إني لأرجو ألّا ترجع خيلهم حتى تستبيحوا عسكرهم وتقتلوا أميرهم. » فقبلوا منه وفعلوا ما أمرهم به، ثم أقبل بهم زحفا، فلا والله ما شعرت الخوارج إلّا بالمهلّب يضاربهم في جانب عسكرهم. ثم استقبلوا عبيد الله بن الماحوز وأصحابه وعليهم السلاح والدروع كاملا، فيأخذ الرجل من أصحاب المهلّب يستعرض وجه الرجل بالحجارة فيرميه حتى يثخنه، ثم يطعنه برمحه، ويضاربه بسيفه، فلم يقاتلهم إلّا ساعة حتى قتل عبيد الله بن الماحوز، وضرب الله وجوه أصحابه، وأخذ المهلّب عسكر القوم وما فيه، وقتل الأزارقة قتلا ذريعا، وأقبل من كان في طلب أهل البصرة، منهم راجعا وقد وضع لهم المهلّب خيلا ورجالا في الطريق تختطفهم وتقتلهم. فانكفئوا راجعين مفلولين مغلوبين، فارتفعوا إلى كرمان وجانب أصبهان. وأقام المهلّب بالأهواز، وانصرف الخوارج على تلك الحال من الفلول وقلّة العدد حتى جاءتهم مادّة لهم من قبل البحرين، فخرجوا نحو كرمان وإصبهان، وأقام المهلّب، فلم يزل ذلك مكانه حتى جاء مصعب إلى البصرة، وعزل الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة عنها، وكتب المهلّب بالفتح كتابا بليغا.
احتيال المختار وهو في المحبس

وفي هذه المدة التي جرى ما حكيناه، كان المختار يحتال من محبسه ويراسل الشيعة، حتى اجتمعوا له، فراسله وجوههم مثل رفاعة بن شدّاد، والمثنى بن محرمة، وسعد بن حذيفة بن اليمان، ويزيد بن أنس، وأحمر بن شميط، وعبد الله بن شدّاد، وقالوا له:
« نحن لك بحيث يسرّك، فإن شئت أن نأتيك حتى نخرجك، فعلنا. » فسرّ المختار باجتماعهم له وقال:
« لا تريدوا هذا، فإني خارج في أيّامى هذه. » قال:
وكان المختار قد بعث غلاما له يدعى رزينا، إلى عبد الله بن عمر يسأله أن يشفع له، فكتب له عبد الله بن عمر كتابا لطيفا إلى عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد يقول فيه:
« قد علمتما ما بيني وبين المختار بن أبي عبيد من الصهر، فأقسمت عليكما بحقّ ما بيني وبينكما لما خلّيتما سبيله. » فلما قرءا كتابه، أرسلا إلى المختار وكفّلاه من قوم، وحلّفاه بالذي لا إله إلّا هو عالم الغيب والشهادة، لا يبغيهما غائلة، ولا يخرج عليهما ما كان لهما سلطان، فإن هو فعل فعليه ألف بدنة ينحرها لدى رتاج الكعبة ومماليكه كلّهم ذكرهم وأنثاهم أحرار. فحلف لهم بذلك.
فكان المختار بعد ذلك يقول:
« قاتلهم الله، ما أحمقهم حين يرون أنّى أفي لهم باليمين التي حلّفونيها. أمّا يميني لهم بالله، فإنّه ينبغي لي إذا حلفت على يمين، فرأيت ما هو خير منها، أن أدع ما حلفت عليه، وآتى الذي هو خير، وأكفّر عن يميني، وأمّا هذه البدنة فأهون عليّ من بصقة، وما ثمن ألف بدنة مما يهولني، وأما عتق مواليّ، فو الله، لوددت أنه قد استتبّ لي أمري ثم لم أملك مملوكا أبدا. »
ثم اختلفت الشيعة إلى المختار، ولم يزل يبايع له ويقوى أمره حتى عزل ابن الزبير عبد الله بن يزيد، وإبراهيم بن محمد، وبعث عبد الله بن مطيع على عملهما إلى الكوفة، فقدم عبد الله بن مطيع، وطلب المختار، وبعث إليه من يثق به ليأتيه به، فتمارض المختار، وألقى عليه قطيفة وجعل يتقفقف. فأقبل صاحب عبد الله بن مطيع وأخبره بعلّته، فصدّقه، ولهى عنه.