ثم إنّ ابن مطيع بعث إلى أهل الجبابين، فأمرهم أن ينضمّوا إلى المسجد، وقال لراشد بن إياس بن مضارب:
« ناد في الناس فليأتوا المسجد. » فنادى المنادى:
« ألا برئت الذمّة من رجل لم يحضر المسجد الليلة. » فتوافى الناس في المسجد، فلما اجتمعوا، بعث ابن مطيع شبث بن ربعيّ في نحو ثلاثة آلاف إلى المختار، وبعث راشد بن إياس في أربعة آلاف إلى المختار، وبعث راشد بن إياس في أربعة آلاف من الشرط.
فسرّح المختار إبراهيم بن الأشتر قبل راشد بن إياس في تسعمائة مقاتل، ويقال: في ستمائة فارس وستمائة راجل، وبعث نعيم بن هبيرة أخا مصقلة بن هبيرة في ثلاثمائة فارس وستمائة راجل نحو شبث، وقال لهما:
« امضيا حتى تلقيا عدوكما، وإذا لقيتماهم، فانزلا في الرجال وعجّلا القراع، وابدءاهم بالإقدام، وتستهدفا لهم فإنّهم أكثر منكم، ولا ترجعا إليّ حتى تظهرا، أو تقتلا. » فتوجّه إبراهيم بن الأشتر إلى راشد وقدّم المختار يزيد بن أنس في تسعمائة أمامه، وتوجّه نعيم بن هبيرة قبل شبث.
فقال سعر بن أبي سعر: لما انتهينا إلى شبث قاتلناه قتالا شديدا، فجعل نعيم بن هبيرة يضاربهم حتى أشرقت الشمس، وضربناهم حتى أدخلناهم البيوت، فسمعت شبث بن ربعيّ ينادى أصحابه:
« يا حماة السوء، بئس فرسان الحقائق أنتم، أمن عبيدكم تهربون؟ » قال: فثابت إليه منهم جماعة، فشدّ علينا وقد تفرّقنا وهزمنا. فصبر نعيم بن هبيرة فقتل، ونزل سعر بن أبي سعر فأسر، [ وأسرت أنا ] وأسر خليد مولى حسّان، وأسر أبو سعيد الصيقل.
قال: فسمعت أبا سعيد الصيقل هذا يقول: سمعت شبث بن ربعي يقول لخليد:
« من أنت؟ » قال:
« خليد مولى حسّان. » فقال له شبث:
« يا ابن المتكاء، تركت بيع الصحناء بالكناسة، وكان جزاء من أعتقك أن تعدو عليهم بسيفك تضرب رقابهم، اضربوا عنقه. » فقتل، ورأى سعرا الحنفيّ، فرفعه، فقال:
« أخو بنى حنيفة؟ » فقال:
« نعم. » قال:
« ويحك! ما أردت إلى اتباع هؤلاء السبائية، قبّح الله رأيك؟ دعوا ذا. » فقلت في نفسي: قتل المولى وترك العربيّ، إن علم أنى مولى قتلني، فلما عرضت عليه، قال:
« من أنت؟ » فقلت:
« من بنى تيم الله. » قال:
« أعربيّ أنت أم مولى. » فقلت:
« لا، بل عربيّ، أنا من آل زياد بن أبي حفصة. » فقال:
« ذكرت الشرف المعروف، الحق بأهلك. » فأقبلت حتى انتهيت إلى الحمراء، وكانت لي بصيرة في قتال القوم، فجئت إلى المختار، وقد وضعت في نفسي أن آتى أصحابي حتى أقتل معهم أو أظفر بظفرهم.
قال: فأتيته وقد سبقني إليه سعر الحنفيّ وجاءه قتل نعيم وأقبلت إليه خيل شبث، فدخل من ذلك أصحاب المختار أمر كبير.
قال: فدنوت من المختار، فأخبرته بما كان من أمري، فقال لي:
« اسكت، فليس هذا بمكان الحديث. » وجاء شبث حتى أحاط بالمختار وبيزيد بن أنس، وكان ابن مطيع أنفذ ابن رويم في ألفين من قبل سكّة لحّام، فوقفوا في أفواه تلك السكك، وجعل المختار يزيد بن أنس على خيله، وخرج هو في الرجّالة.
قال: فحملت علينا خيل شبث حملتين فما يزول رجل منّا من مكانه، فقال يزيد بن أنس لنا:
« يا معشر الشيعة، قد كنتم تقتلون، وتقطع أيديكم وأرجلكم وتسمل عيونكم، وترفعون على جذوع النخل في حبّ أهل بيت [ نبيكم ] وأنتم مقيمون في بيوتكم وطاعة عدوّكم، فما ظنكم بهؤلاء القوم إن ظهروا عليكم اليوم، إذا والله لا يدعون منكم عينا تطرف، وليقتلنّكم صبرا، ولترونّ في أولادكم وأزواجكم وأموالكم ما الموت خير منه، والله، لا ينجيكم منهم إلّا الصدق والصبر والطعن الصائب في أعينهم، والضرب الدراك على هامهم، فتيسّروا للشدة، وتهيّئوا للحملة، فإذا حرّكت رأسى مرتين فاحملوا. » فتهيّأنا، وجثونا على الركب، وانتظرنا أمره.
وكان إبراهيم بن الأشتر حين توجه إلى راشد، لقيه في مراد، فإذا معه أربعة آلاف، فقال إبراهيم لأصحابه:
« لا يهولنّكم كثرة هؤلاء، فو الله لربّ رجل خير من عشرة، ولربّ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله، وَالله مَعَ الصَّابِرِينَ. »
ثم قال:
« يا خزيمة بن نصر، سر إليهم في الخيل. » ونزل هو يمشى في الرجال، واقتتل الناس، فاشتدّ قتالهم، وبصر خزيمة بن نصر العبسيّ براشد بن إياس، فحمل عليه فطعنه فقتله، ثم نادى:
« قتلت راشد وربّ الكعبة. » وانهزم أصحاب راشد، وأقبل إبراهيم بن الأشتر نحو المختار، وبعث إليه من يبشّره بالفتح عليه. فلما جاءهم البشير، كبّروا، واشتدّت أنفسهم، ودخل أصحاب ابن مطيع الفشل، وسرّح ابن مطيع حسّان بن قائد بن بكير العبسيّ في جيش كثيف، فاعترض إبراهيم ليردّه بالسبخة، فقدّم إبراهيم خزيمة بن نصر إلى حسّان بن قائد في الخيل، ومشى إبراهيم نحوه في الرجال، فانهزموا، وتخلّف حسّان بن قائد في أخريات الناس يحميهم، وحمل عليه خزيمة، فلما رءاه عرفه، فقال له:
« يا حسّان، قد عرفتك، فالنجا. » فعثر لحسان فرسه، فوقع، فقال:
« لعا لك أبا عبد الله. » وابتدره الناس، فأحاطوا به، فضاربهم ساعة بسيفه.
فناداه خزيمة:
« إنّك آمن يا با عبد الله، لا تقتل نفسك. » وجاء حتى وقف عليه، ونهنه الناس عنه، ومرّ به إبراهيم.
فقال خزيمة:
« هذا ابن عمّى، وقد آمنته. » فقال إبراهيم:
« أحسنت. » وأمر خزيمة بفرسه حتى أتى به فحمله عليه، وقال:
« الحق بأهلك. » وأقبل إبراهيم نحو المختار وشبث محيط بالمختار ويزيد بن أنس. فلما رءاه يزيد بن الحارث وهو على أفواه السكك التي تلى السبخة، أقبل نحوه ليصدّه عن شبث وأصحابه، فبعث إبراهيم طائفة من أصحابه مع خزيمة بن نصر، فقال:
« أغن عنّا يزيد بن الحارث. » وصمد هو في بقيّة أصحابه نحو شبث بن ربعي، فلما رءاه أصحاب شبث، أخذوا ينكصون وراءهم رويدا رويدا، فلما دنا إبراهيم من شبث وأصحابه حمل عليهم، فانكشفوا حتى انتهوا إلى أبيات الكوفة، وحمل خزيمة بن نصر على يزيد بن الحارث بن رويم، فهزمه، وازدحم القوم على أفواه السكك فوق البيوت، وأقبل المختار في جماعة الناس إلى يزيد بن الحارث، فلما انتهى أصحاب المختار إلى أفواه السكك، رمته تلك المرامية بالنبل، فصدّوهم عن دخول الكوفة، ورجع الناس من السبخة منهزمين إلى ابن مطيع وجاء قتل راشد بن إياس، فسقط في يديه، فقال عمرو بن الحجاج الزبيدي لابن مطيع:
« أيها الرجل لا تسقط في خلدك ولا تلق بيديك، أخرج إلى الناس فاندبهم إلى عدوّك، فإنّ الناس كثير عددهم وكلّهم معك إلّا هؤلاء الطائفة التي خرجت عليك، والله مخزيها وأنا أول منتدب، فاندب معي طائفة ومع غيري طائفة. »
فخرج ابن مطيع، فخطب الناس وحضّهم، وقال في خطبته: