ما جرى على عمرة امرأة المختار

ثم إنّ مصعبا بعث إلى عمرة بنت النعمان بن بشير وهي امرأة المختار، فقال لها:
« ما تقولين في المختار؟ » فقالت:
« رحمه الله، كان عبدا من عباد الله الصالحين. » فرفعها مصعب إلى السجن، وكتب إلى أخيه عبد الله أنها تزعم أنه نبي. فكتب إليه أن اقتلها. فأخرجها بعد عتمة، وسلّمها إلى مطر، فضربها ثلاث ضربات بالسيف، فقالت:
« يا أبتاه، يا أهلاه، يا عشيرتاه! » فسمع بها أبان بن النعمان بن بشير، فلطمه وقال له:
« يا بن الزانية، قطعت نفسها قطع الله يمينك. » ولزمه مطر حتى رفعه إلى مصعب، فقال:
« إنّ أختى مسلمة. » وادّعى شهادة بنى قفل، فلم يشهد له أحد، فقال مصعب:
« خلّوا سبيله فإنّه رأى أمرا فظيعا. »
فقال عمر بن أبي ربيعة:
إنّ من أعجب العجائب عندي ** قتل بيضاء حرّة عطبول
قتلت هكذا على غير جرم ** إنّ الله درّها من قتيل
كتب القتل والقتال علينا ** وعلى المحصنات جرّ الذّيول
حصار عبد الله بن خازم رجال بنى تميم بخراسان

وفي هذه السنة كان حصار عبد الله بن خازم من كان بخراسان من رجال بنى تميم بسبب من قتل منهم ابنه محمّدا. وذلك أنّ بنى تميم تفرّقوا بخراسان أيّام ابن خازم. فأتى قصرا يعرف بفرنبا عدّة من فرسان بنى تميم وأنجادهم مثل عثمان بن بشير، وشعبة بن ظهير النهشلي، وورد بن العلق، وزهير بن ذؤيب العدويّ، وجبهان بن مشجعة الضبي، ورقبة بن الحرّ، والحجّاج بن ناشب، فأتاهم ابن خازم فحصرهم، وخندق على نفسه خندقا حصينا لئلّا يبيّتوه، فكانوا يخرجون ويقاتلونه ثم يرجعون إلى القصر. فخرج ابن خازم يوما على تعبئة من خندقه في ستة آلاف، وخرج أهل القصر، فقال عثمان بن بشير:
« لا أظنّ لكم اليوم بهم طاقة، فانصرفوا. » فقال زهير بن ذؤيب العدوى: امرأته طالق إن يرجع حتى ينقض صفوفهم.
وكان إلى جنبهم نهر يدخله الماء في الشتاء، ولم يكن يومئذ فيه ماء، فاستبطنه زهير، فسار فيه ولم يشعر به أصحاب ابن خازم حتى حمل عليهم، فحطّم أولهم على آخرهم واستداروا وكرّ راجعا واتبعوه على جنبتي النهر يصيحون به ولا ينزل إليه أحد حتى انتهى إلى الموضع الذي انحدر منه، فخرج، وحمل عليهم، فأفرج له القوم حتى رجع.
فقال ابن خازم لأصحابه:
« إذا خرج إليكم زهير فطاعنتموه فاجعلوا في رماحكم كلاليب، فاعلقوها في أداته ودرعه. » فالتفت إليه ليحمل عليهم، فخلّوا رماحهم، فجاء يجرّ أربعة أرماح حتى دخل القصر، فأرسل ابن خازم إلى زهير:
« أرأيتك إن آمنتك وأعطيتك مائة ألف وجعلت لك باشان طعمة تناصحنى؟ » فقال زهير للرسول:
« ويحك! كيف أنا صح قوما قتلوا الأشعث بن ذؤيب؟ » فرجع الرسول فأسقط بها عند موسى بن عبد الله بن خازم. فلما أطال عليهم الحصار، أرسلوا إلى ابن خازم أن:
« خلّنا نخرج فنتفرّق. » فقال:
« لا، إلّا أن تنزلوا على حكمي. » قالوا:
« فإنّا ننزل على حكمك. » فقال لهم زهير:
« ثكلتكم أمّهاتكم، والله ليقتلنّكم عن آخركم، فإن طبتم بالموت نفسا فموتوا كراما، اخرجوا بنا جميعا، فإمّا أن تموتوا جميعا، وإما أن ينجو بعضكم ويهلك بعض. وأيم الله، لئن شددتم عليهم شدّة صادقة ليفرجنّ لكم عن مثل طريق البريد، فإن شئتم كنت أمامكم، وإن شئتم كنت خلفكم. » قال: فأبوا عليه، فقال:
« أما إني سأريكم. » ثم خرج هو ورقبة بن الحرّ ومع رقبة غلام له تركيّ، وشعبة بن ظهير، فحملوا على القوم، فأفرجوا لهم، فمضوا. فأما رقبة وغلامه وشعبة فمضوا على وجوههم، وأما زهير فرجع إلى أصحابه حتى دخل القصر، فقال لأصحابه:
« قد رأيتم، فأطيعونى. » فقالوا:
« إنّ فينا من يضعف عن هذا ويطمع في الحياة. » قال:
« أبعدكم الله، والله لا أكون أجزعكم من الموت. » ففتحوا القصر، ونزلوا على حكمه، فأرسل إليهم، فقيّدهم، ثم حملوا رجلا رجلا، فأراد أن يمنّ عليهم، فأبى ابنه موسى وقال:
« والله، لئن عفوت عنهم لأتّكئن على سيفي حتى يخرج من ظهري. » فقال له عبد الله:
« أما والله، إني لأعلم أنّ الغيّ في ما يأمرنى به. » فقتلهم جميعا إلّا ثلاثة: الحجاج بن ناشب - كلّمه فيه رجال من بنى تميم كانوا معتزلين من عمرو، وحنظلة، وجبهان بن مسجعة، وهو الذي كان ألقى نفسه على ابنه محمد يوم قتل، فقال ابن خازم خلّوا عن هذا البغل الديرج، ورجل من بنى سعد، وهو الذي قال يوم لحقوا ابن خازم: انصرفوا عن فارس مضر.
فأما زهير بن ذؤيب، فأرادوا حمله مقيّدا، فأبى وأقبل يحجل في قيده حتى جلس بين يديه، فقال له ابن خازم:
« كيف شكرك إن أطلقتك وجعلت لك باشان طعمة؟ » قال:
« لو لم تصنع بي إلّا حقن دمى لشكرتك. » فقام ابنه موسى، فقال:
« تقتل الضبع وتترك الذيخ؟ تقتل اللبوءة وتترك الليث؟ » قال:
« ويحك! يقتل مثل زهير؟ من لقتال عدوّ المسلمين، من لنساء العرب؟ » قال:
« والله لو شركت في دم أخي لقتلتك. » فقام رجل من بنى سليم إلى ابن خازم، فقال:
« أذكّرك الله في زهير. » فقال له موسى:
« اتخذه فحلا لبناتك! » فغضب ابن خازم، وأمر بقتله. قال زهير:
« فإنّ لي حاجة: لا تخلط دمى بدماء هؤلاء اللئام، فقد نهيتهم عما صنعوا، وأمرتهم أن يموتوا كراما، وأن يخرجوا عليكم مصلتين السيوف، والله لو فعلوا لشغلوا بنيّك هذا بنفسه عن طلب الثأر بأخيه. » وأمر به فنحّى ناحية وقتل.
فما أشبه هذا الرأي برأى المختار حتى كأنّ أحدهما أخذ عن صاحبه، ولعلّ الوقتين كان واحدا، فإنّ الزمان متقارب.