ذكر سبب العداوة والشحناء بين عبد الملك وبين عمرو بن سعيد

كان الشرّ بينهما قديما، لأنّ ابني سعيد وابني مروان أعنى: محمد بن سعيد وعمرو بن سعيد، ومعاوية بن مروان، وعبد الملك بن مروان، كانوا وهم غلمان لا يزالون يأتون أمّ مروان بن الحكم الكنانيّة يلعبون عندها. فكانت تصنع لهم الطعام، ثم تأتيهم به وتضع بين يدي كلّ واحد صحفة على حدة، ثم تؤرّش بين معاوية بن مروان وبين محمد بن سعيد وبين عبد الملك بن مروان وعمرو بن سعيد، فيقتتلون، وربما تصارموا الحين لا يكلّم بعضهم بعضا. فكان ذلك دأبهما كلّما أتوها حتى ثبتت الشحناء في صدورهم على الصبى، ثم نشأت تلك العداوة معهما.
فذكر أنّ خالد بن يزيد بن معاوية قال لعبد الملك ذات يوم:
« عجب منك ومن عمرو بن سعيد كيف أصبت غرّته فقتلته! » فقال عبد الملك:
أدنيته مني ليسكن ذعره ** فأصول صولة حازم مستمكن
ثم إن ولد عمرو بن سعيد دخلوا على عبد الملك بعد الجماعة وهم أربعة:
أمية، وسعيد، وإسماعيل، ومحمد. فلما نظر إليهم عبد الملك، قال:
« إنكم أهل بيت لم تزالوا ترون أنّ لكم على جميع قومكم فضلا لم يجعله الله لكم، وإنّ الذي كان بيني وبين أبيكم لم يكن حديثا، بل كان قديما في أنفس أوّليكم على أوّلينا في الجاهليّة. » فأقطع بأميّة بن عمرو وكان أكبرهم سنّا وأنبلهم وأعقلهم، فلم يتكلّم بشيء.
فقام سعيد بن عمرو، وكان الأوسط، فقال:
ذكر كلام نفع عند سلطان حقود

« يا أمير المؤمنين، ما تبغى علينا أمرا كان في الجاهليّة، وقد جاء الله بالإسلام فهدم ذلك، ووعد جنّة، وحذّر نارا. فأما الذي بينك وبين عمرو، فإنّ عمرا ابن عمّك، وأنت أعلم وما صنعت، وقد وصل عمرو إلى ربّه وكفى بالله حسيبا. ولعمري لئن أخذتنا بما كان بينك وبينه لبطن الأرض خير لنا من ظهرها. » فرقّ لهم عبد الملك رقّة شديدة، وقال:
« إنّ أباكم خيّرنى بين أن أقتله أو يقتلني، فاخترت قتله على قتلى. فأما أنتم فما أرغبنى فيكم، وأوصلنى لقرابتكم، وأرعانى لحقّكم! » فأحسن جائزتهم.
مسير عبد الملك إلى العراق لحرب مصعب

ثم سار عبد الملك من الشام إلى العراق لحرب مصعب وذلك في سنة سبعين.
وكان قال له خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد:
« إن وجّهتنى إلى البصرة مستخفيا في مواليّ وأتبعتني خيلا يسيرة، رجوت أن أغلب لك عليها. » فأنفذه عبد الملك. فقدمها في مواليه، ونزل على عمرو بن أصمع، ولم يتمّ له ما أراد، وعلم به، فهرب بعد أن أثار فتنة، وقاتل مدّة. وبادر مصعب إلى البصرة، فوجد خالدا قد خرج بمن معه، فأتبعه بخداش بن يزيد، فأدرك مرّة بن محكان، فأخذه وقتله.
وكتب عبد الملك إلى المروانيّة من أهل العراق، فأجابه كلّهم، وشرط كلّ واحد ولاية إصبهان، فأنعم بها لهم. منهم: حجّار بن أبجر، وعتّاب بن ورقاء، والغضبان بن القبعثرى، وزحر بن قيس، ومحمد بن عمير، وغيرهم.
وسار عبد الملك وعلى مقدمته محمد بن مروان، وعلى ميمنته عبد الله بن يزيد بن معاوية، وعلى ميسرته خالد بن يزيد، وسار مصعب وقد خذله أهل الكوفة، وأشار رؤساء أهل الشام على عبد الملك أن يقيم ويقدّم الجيوش، فطن ظفروا، فذاك. وإن لم يظفروا أمدّهم بالجيوش خشية على الناس، وإن أصيب في لقائه مصعبا لم يكن وراءه ملك.
فقال عبد الملك:
« لا يقوم بهذا الأمر إلّا قرشيّ له رأى، ولعلّى أبعث من له شجاعة وليس له رأى، وإني أجد في نفسي أنّى بصير بالحرب، شجاع بالسيف إن ألجيت إليه، ومصعب في بيت شجاعة، أبوه شجاع قريش وهو شجاع ولا علم له بالحرب، ومعه من يخالفه، ومعي من ينصح لي. » فسار عبد الملك حتى نزل مسكن، وسار مصعب إلى باجميرا، وكتب عبد الملك إلى أهل العراق، فأقبل إبراهيم بن الأشتر بكتاب عبد الملك مختوما لم يقرأه، فدفعه إلى مصعب، فقال له مصعب:
« ما فيه؟ » قال:
« ما قرأته. » فقرأه، فإذا هو يدعوه إلى نفسه، ويجعل له ولاية العراق، فقال لمصعب:
« إنّه والله ما كان أحد آيس منه مني. ولقد كتب إلى أصحابك كلّهم بمثل ما كتب إليّ. فأطعنى فيهم واضرب أعناقهم. » قال:
« إذا لا يناصحنا عشائرهم. » قال:
« فأوقرهم حديدا وابعث بهم إلى أبيض كسرى فاحبسهم هنالك، ووكّل بهم من إن غلبت، ضرب أعناقهم، وإن غلبت مننت بهم على عشائرهم. » فقال:
« يا با النعمان، أنا لفى شغل عن ذلك، يرحم الله أبا بحر، إن كان ليحذّرنى غدر أهل العراق، كأنه كان ينظر إلى ما نحن فيه. » وتمثّل مصعب:
وإنّ الأولى بالطفّ من آل هاشم ** تأسّوا، فسنّوا للكرام التأسّيا
فعلم الناس أنه قد استقتل.
مقتل إبراهيم الأشتر

ولمّا تدانى العسكران تقدّم إبراهيم بن الأشتر، فحمل على محمد بن مروان فأزاله عن موضعه، وهرب، فوجّه عبد الملك عبد الله بن يزيد بن معاوية، والتقى القوم، فقتل إبراهيم بن الأشتر، وقتل مسلم بن عمرو الباهليّ، وهرب عتّاب بن ورقاء، وكان على الخيل مع مصعب. فقال مصعب لقطن بن عبد الله الحارثيّ:
« أبا عثمان قدّم خيلك. » قال:
« ما أرى ذلك. » قال:
« ولم؟ » قال:
« أكره أن تقتل مذحج في غير شيء. » فقال لحجّار بن أسيد:
« قدّم رايتك. » قال:
« إلى هذه العذرة؟ » قال:
« ما تتأخّر إليه، والله أنتن وألأم. » وقال لعبد الرحمن بن سعيد بن قيس مثل ذلك. فقال:
« ما أرى أحدا فعل ذلك فأفعله. » فقال مصعب:
« يا إبراهيم، ولا إبراهيم لي اليوم. » ولما أخبر ابن خازم وهو بخراسان مسير مصعب إلى عبد الملك، قال: