« اختر ما شئت من عمل خراسان. » قال:
« طخارستان. » قال:
« هي لك. » قال: فتجهّز بكير، وأنفق مالا كثيرا، فقال بحير لأميّة:
« إن أتى بكير طخارستان خلعك. » فلم يزل يحذّره حتى حذره، وأمره بالمقام.
ذكر تولية عبد الملك الحجاج بن يوسف العراق وسيرة الحجاج

ولمّا توفّى بشر بن مروان، كاتب عبد الملك الحجّاج بن يوسف وهو بالمدينة وولّاه العراق. فأقبل في اثنى عشر راكبا على النجائب، حتى دخل الكوفة حين انتشر النهار. فجاءه، وكان بشر بعث المهلّب إلى الحروريّة، وانصرف كثير من الناس عنه بعد وفاته. وقد كتبنا أمره في ما تقدّم. فبدأ الحجّاج بالمسجد، فدخله، ثم صعد المنبر وهو متلثّم بعمامة حمراء خزّ، فقال:
« عليّ بالناس. » فحسبوه وأصحابه خارجة. فهمّوا به، حتى إذا اجتمع إليه الناس قام فكشف عن وجهه، ثم قال:
« أنا ابن جلا وطلّاع الثّنايا ** متى أضع العمامة تعرفوني
أما والله، إني لأحمل الشرّ محمله، وأخذوه بنعله وأجزيه بمثله، وإني لأرى رؤوسا قد أينعت، وحان قطافها، وإني لأنظر إلى الدماء ترقرق بين العمائم واللّحى. قد شمّرت عن ساقها تشميرا.
هذا أوان الشدّ، فاشتدّى زيم ** قد لفّها الليل بسوّاق حطم
ليس براعي إبل ولا غنم ** ولا بجرّار على ظهر وضم
قد لفّها الليل بعصلبيّ ** مهاجر ليس بأعرابيّ
إني والله، يا أهل العراق ما أغمز تغماز التين، ولا يقعقع لي بالشّنان، ولقد فررت عن ذكاء وفتّشت عن تجربة، وجريت من الغاية. إنّ أمير المؤمنين نثل كنانته، ثم عجم عيدانها، فوجدني أمرّها عودا [ وأصلبها مكسرا ] فرماكم بي. فإنّكم طال ما أوضعتم في الفتن وسننتم سنن الغيّ. والله لألحونّكم لحو العود، ولأعصبنّكم عصب السلمة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل. إني والله لا أعد إلّا وفيت، ولا أخلق إلّا فريت، فإيّاى وهذه الجماعات وقيلا وقالا وما يقول وفيم أنتم وذاك، والله لتستقيمنّ على سبل الحقّ، أو لأدعنّ لكلّ رجل منكم شغلا في جسده. من وجدناه بعد ثالثة من بعث المهلّب سفكت دمه وأنهبت ماله. » ثم دخل منزله ولم يزد على ذلك.
ويقال: إنّه لمّا طال سكوته تناول محمد بن عمير حصى ليحصبه بها، وقال:
« قاتله الله، ما أعياه وآدمه! » فلما تكلّم الحجّاج جعل الحصى ينتشر من يده ولا يعقل به.
ثم دعا الحجّاج بالعرفاء، وقال:
« الحقوا بالمهلّب وائتوني بالبراءات بموافاتهم، ولا تغلقنّ أبواب الجسر ليلا ونهارا، فقد بلغني رفضكم للمهلّب وإقبالكم إلى مصركم عصاة مخالفين.
وإني لأقسم لكم بالله ما أجد أحدا بعد ثلاثة إلّا ضربت عنقه. » فلما كان اليوم الثالث سمع تكبيرا في السوق، فخرج حتى جلس على المنبر، فقال:
« يا أهل العراق وأهل الشقاق ومساوئ الأخلاق، إني سمعت تكبيرا لا يراد به الله في الترغيب، ولكنّه تكبير يراد به الترهيب. وقد عرفت أنها عجاجة تحتها قصف. يا بنى اللكيعة وعبيد العصا وأبناء الأيامى، إن لا تربع رجل على ظلعه ولا يحسن حقن دمه ويبصر موضع قدمه، فأقسم باللَّه لأوشك أن أوقع بكم وقعة تكون نكالا لما قبلها وأدبا لما بعدها. » فقام إليه عمير بن ضابئ التميمي ليتكلم بعذره فقال:
« أسمعت كلامنا بالأمس؟ » قال:
« نعم، » قال:
« ألست الذي غزا أمير المؤمنين عثمان؟ » قال:
« بلى. » قال:
« فما حملك على ذلك؟ » قال:
« حبس أبي وكان شيخا كبيرا. » قال:
« أوليس الذي يقول:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ** تركت على عثمان تبكى حلائله
إني لأحسب في قتلك صلاح المصرين. قم إليه يا حرسيّ فاضرب عنقه. » فقام إليه الحرسيّ، فأخرجه وضرب عنقه، وأنهب ماله، وأمر مناديا فنادى:
« ألا إنّ عميرا أتى بعد ثالثة وقد كان سمع النداء، فأمرنا بقتله. ألا إنّ ذمّة الله بريئة ممن بات الليلة من جند المهلّب. » فخرج الناس، فازدحموا على الجسر، فعبر في تلك الليلة أربعة آلاف مذحج.
وخرج العرفاء إلى المهلّب، وهو برامهرمز، فأخذوا كتبه بالموافاة.
وقال المهلّب لأصحابه:
« قدم العراق أمير ذكر، اليوم قوتل العدوّ. »
قال عمرو بن سعيد: فو الله إني لأسير بين الكوفة والحيرة إذ سمعت زجرا مضريا، فعدلت إليه وقلت:
« ما الخبر؟ » قالوا:
« قدم علينا رجل من شرّ أحياء العرب، من هذا الحيّ، من ثمود، أسقف الساقين، أشرح الجاعرتين، أخفش العينين. فقدّم سيد الحيّ عمير بن ضابئ فضرب عنقه. » ولقي ابن الزبير إبراهيم بن عامر، فسأله عن الخبر، فقال وذلك في السوق:
أقول لإبراهيم لمّا لقيته ** أرى الأمر أضحى منصبا متشعّبا
تجهّز وأسرع فالحق الجيش، لا أرى ** سوى الجيش، إلّا في المهالك مذهبا
تخيّر فإمّا أن تزور ابن ضابئ ** عميرا وإمّا أن تزور المهلّبا
هما خطّتا حتف نجاؤك منهما ** ركوبك حوليّا من الثلج أشهبا
فأمسى ولو كانت خراسان دونه ** رءاها مكان السوق، أو هي أقربا
ثم أسرع الحجاج إلى البصرة

ولما قتل الحجّاج عمير بن ضابئ، خرج من فوره حتى قدم البصرة، فقام فيهم بخطبة، مثل التي قام بها في أهل الكوفة، وتوعّدهم مثل وعيده إيّاهم. فأتى برجل من بنى يشكر، وقيل له:
« هذا عاص. » فقال:
« إنّ لي فتقا، وقد رءاه بشر فعذرنى، وهذا عطائي مردود في بيت المال. » فلم يقبل منه، وقدّمه فضرب عنقه. ففزع أهل البصرة، فخرجوا حتى تداكّوا على العارض برامهرمز، فقال المهلّب:
« جاء الناس أمر ذكر. »
ذكر وثوب الناس بالحجاج

خرج الحجّاج بالناس حتى نزل رستقباذ، ومعه وجوه أهل البصرة، وكان بينه وبين المهلّب ثمانية عشر فرسخا. فقام في الناس، فقال:
« إنّ ابن الزبير زادكم في أعطياتكم زيادة فاسق منافق ولست أجيزها. » فقام إليه عبد الله بن الجارود العبدى، فقال:
« ولكنّها زيادة أمير المؤمنين عبد الملك، وقد أثبتها لنا. » فكذّبه وتوعّده، فخرج ابن الجارود على الحجّاج، وبايعه وجوه الناس.
فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل عبد الله بن الجارود وجماعة ممن ثار معه، وبعث الحجّاج برأسه ورؤوس عدّة من أصحابه إلى المهلّب، ونصب برامهرمز ثمانية عشر رأسا من وجوه الناس. فساء ذلك الخوارج، وكانوا رجوا أن يكون من الناس فرقة واختلاف. وانصرف الحجّاج إلى البصرة، وكتب إلى المهلّب وإلى عبد الرحمن بن مخنف:
« أما بعد، إذا أتاكم كتابي هذا، فناهضوا الخوارج. والسلام. » فناهض المهلّب وعبد الرحمن الأزارقة، فأجلوهم عن رامهرمز من غير قتال شديد، ولكنّهم زحفوا إليهم حتى أزالوهم، وخرج القوم كأنهم على حامية، حتى نزلوا بكازرون.
ذكر توان لعبد الرحمن حتى قتل وقتل معه خلق

وسار المهلّب وعبد الرحمن حتى نزلوا بهم، فخندق المهلّب ولم يخندق عبد الرحمن، فقال المهلّب لعبد الرحمن:
« إن رأيت أن تخندق عليك فعلت. » فقال أصحاب عبد الرحمن: