« يا فلان أنت على الميمنة، وأنت يا فلان على الميسرة. » وقال لمصاد:
« أنت على القلب. » وأمر الدهقان، ففتح الباب في وجوههم، فخرج إليهم وهو يحكّم. فجعل سعيد وأصحابه يرجعون القهقرى حتى صار بينهم وبين الدير ميل، وجعل سعيد يصيح:
« يا معشر همدان، أنا ابن ذي مرّان، إليّ إليّ. » ونزع سرابانة كانت عليه. فنظر شبيب إلى مصاد فقال له:
« استعرضهم استعراضا، فإنّهم قد تقطّعوا. فإني حامل على أميرهم، وأثكلنيك الله إن لم أثكل ولده. » ففعل مصاد ما أمره به وحمل هو على سعيد بن مجالد، فعلاه بالعمود، فسقط ميّتا وانهزم أصحابه، وما قتل منهم يومئذ إلّا قتيل واحد. وانكشف أصحاب سعيد بن مجالد حتى انتهوا إلى الجزل، فناداهم الجزل:
« أيها الناس، إليّ إليّ. » وناداهم عياض بن أبي لينة:
« أيها الناس، إن يكن أميركم هذا القادم هلك، فهذا أميركم الميمون النقيبة.
أقبلوا إليه. » فأقبلوا إليه. فمنهم من أقبل إليه، ومنهم من ركب رأسه منهزما. وقاتل الجزل قتالا شديدا حتى صرع، وقاتل عنه خالد بن نهيك وعياض بن أبي لينة حتى استنقذاه وهو مرتثّ. وأقبل الناس منهزمين حتى دخلوا الكوفة، وأتى بالجزل حتى دخل المدائن، وكتب إلى الحجّاج بن يوسف:
« أما بعد، فإني أخبر الأمير، أصلحه الله، أنّى خرجت من الجند الذي وجّهنى فيه إلى عدوّه، وقد كنت حفظت عهد الأمير إليّ فيهم ورأيه. فكنت أخرج إليهم إذا رأيت الفرصة، وأحبس الناس عنهم إذا خشيت الورطة، فلم أزل كذلك وقد أرادنى العدوّ بكلّ ريدة، فلم يصب مني غرّة حتى قدم عليّ سعيد بن مجالد رحمه الله، فأمرته بالتؤدة، ونهيته عن العجلة، وأمرته ألّا يقاتلهم إلّا في جماعة الناس عامّة فعصاني وتعجّل إليهم في الخيل، وكنت أشهدت الله عليه وأهل المصرين، أنّى بريء من رأيه الذي رأى، وأنّى لا أهوى ما صنع. فمضى، تجاوز الله عنه، ودفع الناس إليّ، فنزلت ودعوتهم إليّ، ورفعت لهم رايتي، وقاتلت حتى صرعت فحملني أصحابي من بين القتلى، فما أفقت إلّا وأنا في أيديهم على رأس ميل من المعركة، فأنا اليوم بالمدائن في جراحات قد يموت الإنسان من دونها، ويعانى من مثلها. فليسأل الأمير، أصلحه الله، عن نصيحتي له ولجنده، وعن مكايدتى عدوّه، وعن موقفي يوم البأس. فإنّه يستبين له عند ذلك أنّى قد صدقته ونصحت له. والسلام. » فكتب إليه الحجّاج:
« أما بعد، فقد أتانى كتابك وقرأته وفهمت كلّ ما ذكرته فيه من أمر سعيد وأمر نفسك وقد صدّقتك في نصيحتك لأميرك، وحيطتك على أهل مصرك، وشدّتك على عدوّك وقد رضيت عجلة سعيد وتؤدتك. فأما عجلته فانّها أفضت به إلى الجنة وأما تؤدتك فإنها ما لم تدع الفرصة إذا أمكنتك، حزم، وقد أحسنت وأصبت وأجرت، وأنت عندي من أهل السمع، والطاعة والنصيحة، وقد أشخصت إليك حيّان بن أعسر ليداويك ويعالج جراحتك، وبعثت إليك بألفي درهم، فأنفقها في حاجتك وما ينوبك. والسلام. » وبعث عبد الله بن أبي عصيفر إلى الجزل بألف درهم، وكان يعوده ويتعاهده باللّطف والهديّة.
وأقبل شبيب حتى قطع دجلة عند الكرخ، وبعث إلى سوق بغداد، وكان ذلك يوم سوقهم، فآمنهم، وكان بلغه أنهم يخافونه، وهو وأصحابه يريدون أن يشتروا من السوق دوابّ وثيابا وأشياء ليس لهم منها بدّ، ثم أخذ بهم نحو الكوفة، فساروا، وبلغ الحجّاج مكانه بحمّام [ أعين ] فبعث إلى سويد بن عبد الرحمن السعدي، فجهّزه في ألفى فارس نقاوة وقال له:
« اخرج إلى شبيب، فالقه واجعل ميمنة وميسرة، ثم انزل إليهم في الرجال، فإن استطرد لك فدعه ولا تتّبعه. » فخرج، فعسكر بالناس بالسبخة، وبلغه أنّ شبيبا قد أقبل. فسار نحوه وكأنما يساقون إلى الموت. وأمر الحجّاج عثمان بن قطن فعسكر بالناس في السبخة، ونادى:
« ألا، برئت الذمّة من رجل من هذا الجند بات الليلة بالكوفة ولم يخرج إلى عثمان بن قطن بالسبخة. » فبينا سويد بن عبد الرحمن يسير في الألفين الذين معه وهو يعبّئهم ويحرّضهم، إذ قيل له:
« قد غشيك شبيب. » فنزل، ونزل معه جلّ أصحابه، وقدّم رايته، فأخبر أنّ شبيبا لمّا أخبر بمكانك، تركك، ووجد مخاضة فعبر الفرات يريد الكوفة من غير الوجه الذي أنت به.
ثم قيل لهم:
« أما تراهم؟ » فنادى في أصحابه، فركبوا في آثارهم وإنّ شبيبا أتى دار الرزق، فنزلها، فقيل له:
« إنّ أهل الكوفة بأجمعهم معسكرون. » فلمّا بلغ مكان شبيب، ماج بعضهم في بعض، وجالوا وهمّوا بدخول الكوفة حتى قيل لهم:
« هذا سويد بن عبد الرحمن في آثارهم قد لحقهم وهو يقاتلهم في الخيل. » ومضى شبيب حتى أخذ على شاطئ الفرات، ثم أخذ على الأنبار، ثم دخل وقوقا، ثم ارتفع إلى أدانى آذربيجان. فتركه الحجّاج، وخرج إلى البصرة، واستخلف على الكوفة عروة بن شعبه. فما شعر الناس بشيء حتى جاء كتاب مادر واسب دهقان بابل مهروذ إلى عروة بن المغيرة بن شعبة أنّ تاجرا من تجّار أهل بلادي أتانى يذكر أنّ شبيبا يريد أن يدخل الكوفة في أول هذا الشهر المستقبل، وأحببت إعلامك لترى رأيك ثم لم ألبث أن جاءني جائيان من جيراني، فحدّثانى أنه قد نزل خانيار.
فأخذ عروة كتابه، فأدرجه وسرّح به إلى الحجّاج بالبصرة. فلما قرأه الحجّاج أقبل جادّا إلى الكوفة، وأقبل شبيب حتى انتهى إلى قرية يقال لها: حزى، على شاطئ دجلة، فعبر منها، وقال لأصحابه:
« يا هؤلاء، إنّ الحجّاج ليس بالكوفة وليس دون الكوفة شيء إن شاء الله، فسيروا بنا. » فخرج يبادر الحجّاج إلى الكوفة.
وكتب عروة إلى الحجّاج:
« إنّ شبيبا أقبل مسرعا يريد الكوفة، فالعجل العجل. » فطوى الحجّاج المنازل، واستبقا إلى الكوفة: فنزلها الحجّاج صلاة العصر، ونزل شبيب السبخة صلاة المغرب والعشاء الآخرة، ثم أصاب هو وأصحابه من الطعام شيئا يسيرا، ثم ركبوا خيولهم. فدخل الكوفة، وجاء شبيب حتى انتهى إلى السوق. ثم شدّ حتى ضرب باب القصر بعموده.
قال: فحدّثني جماعة أنهم رأوا ضربة شبيب باب القصر، ثم أقبل حتى وقف عند المصطبّة وقال:
وكأنّ حافرها بكلّ خميلة ** فرق يكيل به شحيح معدم
ثم اقتحم أصحابه المسجد، وكان لا يفارقه قوم يصلّون فيه، فقتل جماعة.
ومرّ بدار حوشب وهو على الشرط، فوقفوا على با به وقالوا:
« إنّ الأمير يدعو حوشبا. » فأخرج ميمون غلامه برذون حوشب فكأنّه أنكرهم وأراد أن يدخل إلى صاحبه، فقالوا له:
« كما أنت حتى يخرج صاحبك. » فسمع حوشب الكلام، فأنكر القوم، فلما رأى جماعتهم أنكرهم وذهب لينصرف فعجّلوا نحوه، ودخل وأغلق الباب وقتلوا غلامه ميمونا وأخذوا برذونه ومضوا. حتى مرّوا بالجحّاف بن بسيط الشيبانى من رهط حوشب. فقال له سويد:
« انزل إلينا. » فقال:
« ما تصنع بنزولى؟ » قال سويد:
« انزل أقضك ثمن البكرة التي كنت ابتعتها منك بالبادية. » فقال له الجحّاف:
« بئس ساعة القضاء هذه الساعة، وبئس المكان لقضاء الدين، أما ذكرت أداء أمانتك إلّا والليل مظلم وأنت على متن فرسك! قبّح الله دينا لا يصلح ولا يتمّ إلّا بقتل وسفك لدماء أهل القبلة. » ثم مرّوا بمسجد بنى ذهل، فلقوا ذهل بن الحارث، وكان يصلّى في مسجد قومه فيطيل الصلاة، فصادفوه منصرفا إلى منزله، فقتلوه. ثم خرجوا متوجّهين نحو الردمة، وأمر الحجّاج فنودي:
« يا خيل الله اركبي وأبشرى. » وهو فوق القصر وهناك مصباح مع غلام له قائم. فكان أول من جاء من الناس عثمان بن قطن ومعه مواليه وناس من أهله، فقال:
« أعلموا الأمير مكاني، أنا عثمان بن قطن، ليأمرنى بأمره. » فناداه ذلك الغلام:
« قف مكانك حتى يأتيك أمر الأمير. » وجاء الناس من كلّ جانب، وبات عثمان في من اجتمع إليه من الناس حتى أصبح.
وكان عبد الملك بن مروان قد بعث محمد بن موسى بن طلحة على سجستان، وكتب له عليها عهده، وكتب إلى الحجّاج:
« إذا قدم عليك محمد بن موسى بن طلحة فجهّز معه ألفى رجل، وعجّل سراحه إلى سجستان. » فلما قدم محمد بن موسى الكوفة جعل يتحبّس ويتجهّز. فقال له نصحاؤه: