فقال شمّاس بن دثار، وكان غزا مع أميّة:
« أيها الأمير، قدّمنى فإني أكفيه إن شاء الله. » فقدّمه أميّة في ثمانمائة فارس. وسار إليه بكير فقال:
« أما كان في تميم أحد يحاربني غيرك؟ » ولامه. فأرسل إليه شمّاس:
« أنت ألأم وأسوأ صنيعا مني، لم تف لأميّة ولم تشكر صنيعه بك. » قال: فبيّته بكير، ففرّق جمعه وقال:
« لا تقتلوا منهم أحدا وخذوا سلاحهم. » فكانوا إذا أخذوا رجلا سلبوه وخلّوا عنه. فتفرّقوا. وقدّم أميّة كشماهن ورجع إليه شمّاس بن دثار. ثم أقبل أميّة في الناس، فقاتله بكير مدّة، ثم انحاز بكير يوما، فدخل الحائط، فنزل السوق. ونزل أميّة باشان، وكانوا يلتقون في ميدان يزيد. فانكشفوا يوما، فحماهم بكير، ثم التقوا يوما آخر في الميدان، فضرب رجل من تميم على رجله، فجعل يسحبها وهريم يحميه. فقال الرجل:
« اللهمّ أيّدنا بالملائكة. » فقال له هريم:
« أيها الرجل، قاتل عن نفسك، فإنّ الملائكة في شغل عنك. »
فتحامل، ثم أعاد قوله مرارا:
« اللهمّ أيّدنا بالملائكة. » فقال لهم هريم:
« لتكفّنّ عني، أو لأدعنّك والملائكة. » فسكت، وحماه حتى ألحقه بالناس. فكانوا كذلك مدة يتقاتلون، وكان أصحاب بكير يغدون متفضّلين، في ثياب مصبّغة، وملاحف وأزر صفر وحمر، فيجلسون على نواحي المدينة يتحدّثون وينادى مناد:
« من رمى بسهم، رمينا إليه برأس رجل من أهله وولده. » فلا يرميهم أحد. وأشفق بكير وخاف، إن طال الحصار، أن يخذله الناس.
فطلب الصلح، وأحبّ أصحاب أميّة ذلك، لمكان عيالاتهم بالمدينة، وكان يحبّ أميّة العافية، فصالحه على أن يقضى عنه أربعمائة ألف، ويصل إليه أصحابه ويولّيه أيّ كورة خراسان شاء، ولا يسمع قول بحير فيه، وإن راب منه ريب فهو آمن أربعين يوما حتى يخرج من مرو.
وقال: وأخذ الأمان لبكير، وكتب إليه أميّة كتابا، ودخل أميّة المدينة، ووفى لبكير، وعاد إلى ما كان له من الإكرام وحسن الأدب. فأرسل إلى عتّاب اللّقوة فقال:
« أنت صاحب المشورة؟ » قال:
« نعم، أصلح الله الأمير. » قال:
« ولم؟ » قال:
« خفّ ما كان في يدي، وكثر ديني، وأعديت على غرمائي. » قال:
« ويحك! فضرّبت بين المسلمين، وأحرقت السفن والمسلمون في بلاد العدوّ، وما خفت الله. » قال:
« قد كان ذاك وأستغفر الله. » قال:
« كم كان دينك؟ » قال:
« عشرون ألفا. » قال:
« تكفّ عني وعن المسلمين غشّك وأقضى دينك. » قال:
« نعم، جعلني الله فداءك. » فضحك أميّة وقال:
« ظنّى بك غير ما تقول، وأرجو أن تفي. » فأدّى عنه عشرين ألفا.
« وكان أميّة سهلا ليّنا سخيّا لم يعط أحد بخراسان ما أعطاه، وكان مع ذلك ثقيلا على الناس لزهو كان فيه شديد. وكان يقول:
« ما أكتفى بخراسان وسجستان لمطبخى! » وعزل أميّة بحيرا عن شرطته، وكتب إلى عبد الملك بما كان من بكير وصفحه عنه، وعزله بحيرا طلب مرضاته.
عاقبة أمر بكير

وأخذ أميّة الناس بالخراج واشتدّ عليهم فيه. فجلس يوما بكير في المسجد وعنده ناس من بنى تميم، فذكر شدّة أميّة على الناس، فذمّوه وقالوا:
« سلّط علينا الدهاقين في الجباية. » وكان بكير وضرار بن حصن وعبد العزيز بن حارثة في ناحية من المسجد.
فنقل بحير ذلك إلى أميّة، فكذّبه، فادّعى شهادة هؤلاء وشهادة مزاحم بن المحشر. فدعا أميّة مزاحما، فسأله، فقال:
« إنّما كان يمزح. » فأعرض عنه. ثم إنّ بحيرا أتاه، فقال:
« أصلحك الله، إنّ بكيرا دعاني إلى خلعك، وقال: لولا مكانك لقتلت هذا القرشيّ وأكلت خراسان. » فقال أميّة:
« ما أصدّق بهذا وقد فعل وفعلت ما فعلت. » فأتاه بضرار بن حصن وعبد العزيز بن حارثة، فشهدا أنّ بكيرا قال لهما: لو أطعتمانى قتلت هذا القرشيّ المخنّث، ودعانا إلى الفتك بك. » فقال أميّة:
« أنتم أعلم وما شهدتم، وما أظنّ هذا به، وإنّ تركه - وقد شهدتم بما شهدتم به - عجز. » فقال له:
« إنّ عتّابا يحمله على ذلك. » فقال لحاجبه وصاحب حرسه، وكان يومئذ عطاء بن أبي السائب:
« إذا دخل بكير وبدل وشمر دل ابنا أخيه فنهضت فخذوهم. » وجلس أميّة للناس وجاء بكير وابنا أخيه. فلما جلسوا قام أميّة عن سريره، فدخل وخرج الناس، فلما همّ بكير بالخروج حبسوه وابني أخيه. فدعا أميّة ببكير وقال:
« أنت القائل كذا وكذا؟ » فقال:
« تثبّت أصلحك الله ولا تسمع قول ابن المحلوقة. » فحبسه وأخذ جاريته، وكانت تسمّى: العارمة، فحبسها معه، وحبس الأحنف بن عبد الله العنبري. فلما كان من الغد، أخرج بكيرا، فشهد بحير وضرار وعبد العزيز أنّه دعاهم إلى خلعه والفتك به. فقال:
« أصلحك الله، فإنّ هؤلاء أعدائى. » فقال أميّة لبحير:
« أتقتله؟ » قال:
« نعم. » فقام إليه، ونهض أميّة. فقال بكير:
« يا بحير، إنّك تفرّق أمر بنى سعد إن قتلتني، فدع هذا القرشيّ يلي مني ما يريد. » فقال بحير:
« لا والله، يا بن الإصبهانيّة! لا تصلح بنو سعد ما دمنا حيّين. » فقال:
« فشأنك يا بن المحلوقة. » وقتل أميّة ابن أخي بكير، ووهب جاريته العارمة لبحير.
ثم وجّه أميّة رجلا من خزاعة إلى موسى بن عبد الله بن خازم، فقتله عمرو بن خالد بن حصن الكلابي غيلة، فتفرّق جيشه، واستأمن طائفة منهم إلى موسى ورجع بعضهم إلى أميّة. وعزل عبد الملك بن مروان أميّة عن خراسان وولّاها المهلّب من قبل الحجّاج، وسنذكر سببه.
وأخذ الأبناء تحضّ على قتل بحير في الشعر وفي غير الشعر، فتعاقد جماعة منهم على الفتك ببحير. فخرج فتى منهم يقال له الشمر دل من البادية حتى قدم خراسان. فنظر إلى بحير واقفا، فشدّ عليه، فطعنه، فصرعه وظنّ أنّه قتله. فتنادى الناس: « خارجيّ. » فراكضهم، فعثر فرسه وندر عنه فقتل. فكان بحير بعد ذلك يتحرّز من الغيلة، إلى أن خرج صعصعة بن حرب العوفيّ من البادية وقد باع غنيمات له واشترى حمارا، ومضى إلى سجستان فحاور قرابة لبحير هناك ولا طفه وقال:
« أنا رجل من بنى حنيفة من أهل اليمامة. » فلم يزل يأتيهم ويجالسهم حتى أنسوا به.