« أيّكما يرى هذا الرجل، فإن أصابه فله عشرة آلاف وإن أخطأ قطعت يده. » فتلكّأ أحدهما وتقدّم الآخر، فلم يخطئ عينه. فأمر له بعشرة آلاف.
فتحدّث يحيى بن خالد بن ثابت مولى مسلم بن عمرو قال: كنت في رماة قتيبة، فلمّا فتحنا المدينة صعدت السور، فأتيت مقام ذلك الرجل الذي كان فيه، فوجدته ميّتا على الحائط ما أخطأت النشّابة عينه حتى خرجت من قفاه.
ثم أصبحوا من غد فرموا المدينة حتى ثلموا فيها. وقال قتيبة:
« ألحّوا عليها حتى تعبروا الثلمة. » فقاتلوهم، ورماهم السغد بالنشّاب، فوضعوا ترستهم على أعينهم، ثم حملوا حتى صاروا على الثلمة، وكانوا طلبوا الصلح، فقال قتيبة:
« لا والله! ما نصالحكم إلّا ورجالنا على الثلمة ومجانيقنا تخطر على مدينتكم. » فصالحهم من غد على ألفي ألف ومائتي ألف في كلّ عام، على أن يعطوه تلك السنة ثلاثين ألف رأس ليس فيه صبيّ ولا شيخ ولا ذو عيب، وعلى أن يخلوا المدينة لقتيبة، فلا يكون لهم فيها مقاتل، فيبنى فيها مسجد فيدخل ويصلّى، ويوضع له فيها منبر، ويتغدّى ويخرج.
فلمّا تمّ الصلح بعث قتيبة بعشرة من كلّ خمس برجلين، فقبضوا ما صالحهم عليه، فقال قتيبة:
« الآن ذلّوا حين صار أزواجهم وأولادهم في أيديكم. » ثم أخلوا المدينة وبنوا مسجدا ووضعوا منبرا، فدخلها قتيبة في أربعة آلاف انتخبهم. فلمّا دخلها أتى المسجد، فصلّى وخطب، ثم تغدّى. وأرسل إلى أهل السغد:
« من أراد منكم أن يأخذ متاعه فليأخذ، فإني لست خارجا منها، وإنّما صنعت هذا لكم، ولست آخذ منكم أكثر مما صالحتكم عليه غير أنّ الجند يقيمون فيها. »
والباهليّون يقولون: صالحهم قتيبة على مائة ألف رأس وبيوت النيران وحلية الأصنام. فقبض ما صالحهم عليه، وأتى بالأصنام فسلبت ووضعت بين يديه وكانت كالقصر العظيم حين جمعت، فأمر بتحريقها.
فقالت الأعاجم:
« إنّ فيها أصناما من حرقها هلك. » فقال قتيبة:
« أنا أحرقها بيدي. » فجاء غورك، فجثا بين يديه وقال:
« إنّ شكرك عليّ واجب، لا تعرّض لهذه الأصنام. » فدعا قتيبة بالنار، فأخذ شعلة بيده، وخرج فكبّر، ثم أشعلها وأشعل الباب، فاضطرمت، فوجدوا من بقايا ما كان فيها من مسامير الذهب والفضّة خمسين ألف مثقال.
جارية رابعة ليزدجرد أصابها قتيبة

ومن ملح الحديث وإن لم يكن من شرط هذا الكتاب، أنّ قتيبة أصاب بالسغد جارية رابعة من ولد يزد جرد، فقال:
« أترون ابن هذه يكون هجينا؟ » فقالوا:
« نعم، يكون هجينا من قبل أبيه. » فبعث بها إلى الحجّاج، فبعث بها الحجّاج إلى الوليد، فولدت له يزيد بن الوليد.
ما أوصى به قتيبة عبد الله بن مسلم

ولمّا فتح قتيبة سمرقند استخلف عليها عبد الله بن مسلم وخلّف عنده جندا كثيفا وآلة من آلات الحرب كثيرة، وقال:
« لا تدعنّ مشركا يدخل بابا من أبواب سمرقند إلّا مختوم اليد، فإن جفّت الطينة قبل أن يخرج فاقتله، وإن وجدت معه حديدة أو سكّينا فما سواه فاقتله، وإن أغلقت الباب ليلا فوجدت فيها منهم فاقتله.
وقال قتيبة لمّا جمع بين فتح خوارزم وسمرقند:
« هذا العداء لا عداء العيرين. » لأنّه افتتح خوارزم وسمرقند في عام واحد، وذلك أنّ الفارس إذا صرع في طلق واحد عيرين، قيل: عادى بين عيرين.
فتوح أخرى تمت في هذه المدة

وفي هذه المدة التي ذكرنا فيها أمور الحجّاج بالعراق وأخباره مع الخوارج وعبد الرحمن بن الأشعث وغزوات قتيبة والمهلّب قبله كانت غزوات لعبد الله بن عبد الملك أرض الروم، ففتح فيها المصيصة وغيرها، وغزوات لمسلمة بن عبد الملك، ففتح فيها طوانة، وغيرها، وقسطنطنين، وغزالة، وحصن سورية، وعمّورية وهرقلة، وقمولية. وغزا أيضا مسلمة بن عبد الملك في هذه المدة الترك حين بلغ الباب من ناحية أذربيجان.
وأغزى موسى بن نصير الأندلس، ففتحها، وفتح موسى بن نصير من بلاد الأندلس عدّة مدن، وقتل ملكها، وكان رجلا من أهل إصبهان، وكان ملوك الأندلس يلقّبون كما تلقّب الأكاسرة والقياصرة، فيقال لملكها: الأذرينوق، فقتله موسى بعد قتال شديد لم تكن فيها مكيدة، وكانت فيها غزوات العباس بن الوليد أرض الروم.
وغزوات لمروان بن الوليد الروم، فتحوا لهم مدنا وحصونا.
ولم يذكر في جميع ذلك ما يستفاد منه تجربة.
وقتل الحجّاج سعيد بن جبير في سنة خمس وسبعين.
ذكر كلام لسعيد بن جبير كان سبب قتله

قال: لمّا أتى الحجّاج بسعيد بن جبير، قال:
« لعن الله ابن النصرانيّة.. » يعنى خالدا القسريّ وهو الذي كان أرسل به من مكّة.
«.. أتراني ما كنت أعرف مكانه؟ بلى والله والبيت الذي هو فيه بمكّة. » ثم أقبل على سعيد، فقال:
« يا سعيد، ما أخرجك عليّ مع عدوّ الرحمن؟ » قال:
« أصلح الله الأمير، إنّما أنا رجل من المسلمين يخطئ مرّة ويصيب مرّة. » قال: فطابت نفس الحجّاج وتطلّق حتى رجونا أن يتخلّص منه. عاوده في شيء، فقال:
« إنّما كانت له بيعة في عنقي. » قال: فغضب الحجّاج وانتفخ حتى سقط أحد طرفي ردائه عن منكبه، وقال:
« يا سعيد، ألم أقدم مكّة فقتلت ابن الزبير، ثم أخذت بيعة أهلها وأخذت بيعتك لأمير المؤمنين عبد الملك؟ » قال:
« بلى. » قال:
« ثم قدمت الكوفة واليا على العراق، فجدّدت لأمير المؤمنين البيعة فأخذت بيعتك له ثانية؟ » قال:
« بلى. » قال:
« فنكثت لأمير المؤمنين بيعتين، ووفيت بواحدة لابن الحائك! يا حرسيّ اضرب عنقه. » ثم قام ليركب، فوضع رجله في الركاب، وقال:
« لا والله، لا أركب حتى تبوّأ مقعدك من النار. » فضربت عنقه، فالتبس عقله مكانه، فجعل يقول:
« قيودنا قيودنا! » فظنّ أنّه يريد القيود التي في رجل سعيد بن جبير، فقطعوا رجليه من أنصاف ساقيه وأخذوا القيود. فكان إذا نام يراه في منامه كأنّه يأخذ بمجامع ثوبه، فيقول:
« ما لي ولابن جبير؟ »
موت الحجاج بن يوسف

وفيه هذه السنة مات الحجّاج بن يوسف، وكان استخلف في مرضه على حرب العراقين والصلاة بأهلها يزيد بن كبشة، وعلى خراجها يزيد بن أبي مسلم، فأقرّهما الوليد بعد موت الحجّاج، وكذلك فعل بعمّال الحجّاج، أقرّهم على أعمالهم التي كانوا عليها في حياته.
ودخلت سنة ستّ وتسعين

من سيرة الوليد بن عبد الملك

وفيها مات الوليد بن عبد الملك في النصف من جمادى الآخرة منها، وكان عند أهل الشام أفضل خلائفهم، وذلك أنّه بنى مساجد منها مسجد دمشق ومسجد المدينة، ووضع المنار وأعطى المجذّمين وأفردهم، وقال:
« لا تسألوا الناس! » وأعطى كلّ مقعد خادما وكلّ ضرير قائدا.
وفتحت في ولايته فتوح عظام. أمّا موسى بن نصير ففتح الأندلس، وبلغ قتيبة كاشغر، وهي أوّل مدائن الصين، وفتح محمد بن القاسم الهند.
وكان الوليد صاحب بناء واتخاذ المصانع والضياع. فكان الناس في أيامه إذا التقوا فإنّما يسأل بعضهم بعضا عن البناء والضياع.
ثم ولى سليمان فكان صاحب نكاح وطعام، وكان الناس يسأل بعضهم بعضا عن التزويج والجواري.
فلمّا ولى عمر بن عبد العزيز، كانوا يلتقون فيقولون:
« ما وردك؟ وكم تحفظ من القرآن؟ ومتى تختم؟ وكم تصوم من الشهر؟ » وكان الوليد وسليمان وليّى عهد عبد الملك. فلمّا أفضى الأمر إلى الوليد أراد أن يبايع لابنه عبد العزيز ويخلع سليمان. فأبى سليمان، فأراده على أن يخلعه من بعده، فامتنع أيضا، فعرض عليه أموالا كثيرة، فأبى. فكتب إلى عمّاله بأن يبايعوا لعبد العزيز، ودعا الناس إلى ذلك فلم يجبه أحد إلّا الحجّاج وقتيبة.
ذكر رأي لعباد بن زياد

فقال عبّاد بن زياد:
« يا أمير المؤمنين، إنّ الناس لا يجيبونك إلى هذا، ولو أجابوك لم آمنهم على الغدر بابنك، فاكتب إلى سليمان فليقدم عليك، فإن لك عليه طاعة، فأرده على البيعة لابنك عبد العزيز من بعده، فإنّه لا يقدر على الامتناع وهو عندك، فإن أبي كان الناس عليه. » فكتب الوليد إلى سليمان يأمره بالمسير إليه، فأبطأ، واعتزم الوليد على المسير إليه وعلى أن يخلعه. فأمر الناس بالتأهّب وأخرجت مضاربه ومات قبل أن يسير.
فتح كاشغر وما دار بين مبعوثي قتيبة وملك الصين

وكان قتيبة قد غزا في هذه السنة مدينة كاشغر وهي أدنى مدائن الصين. فلمّا بلغ فرغانة أتاه موت الوليد، فوغل قتيبة حتى قرب من الصين، فكتب إليه ملك الصين أن:
« ابعث إليّ رجلا من أشراف من معكم يخبرنا عنكم ونسأله عن دينكم. » فانتخب قتيبة من عسكره اثنى عشر رجلا من أفناء القبائل لهم جمال وأجسام وألسن وبأس. وبعد أن سأل عنهم، فوجدهم بحيث أحبّ، فكلّمهم قتيبة وفاطنهم، فرأى عقولا وجمالا، فأمر لهم بعدّة حسنة من السلاح والمتاع والجيّد من الخزّ والوشي والليّن من الثياب والرقيق والبغال والعطر، وحملهم على خيول مطهّمة تقاد معهم، ودوابّ يركبونها، وقال لهم:
« سيروا على بركة الله، فإذا دخلتم عليه فأعلموه أنّى قد حلفت أن لا أنصرف حتى أطأ بلادهم و [ أختم ] ملوكهم وأجبى خراجهم. » فساروا وعليهم هبيرة بن المشمرج، فلمّا قدموا أرسل إليهم ملك الصين يدعوهم. فدخلوا الحمّام، ثم خرجوا، فلبسوا ثيابا بياضا تحتها الغلائل، ثم مسّوا الغالية، ولبسوا النعال والأردية ودخلوا عليه وعنده عظماء أهل مملكته، فجلسوا، فلم يكلّمهم الملك ولا أحد من جلسائه، فنهضوا فقال الملك لمن حضره:
« كيف رأيتم هؤلاء؟ » قالوا:
« رأينا قوما هم نساء، ما بقي منّا أحد حين رءاهم ورأى شعورهم ووجد رائحتهم إلّا انتشر ما عنده. » قال: فلمّا كان الغد أرسل إليهم فلبسوا الوشي وعمائم الخزّ والمطارف وغدو عليه. فلمّا دخلوا إليه قيل لهم:
« ارجعوا! » ثم قال لأصحابه:
« كيف رأيتم؟ » قالوا:
« هذه الهيئة أشبه بهيئة الرجال من تلك [ الهيئة ] الأولى وهم أولئك. » فلمّا كان اليوم الثالث أرسل إليهم فشدّوا عليهم سلاحهم ولبسوا البيض والمغافر، وتقلّدوا السيوف، وأخذوا الرماح، وتنكّبوا القسيّ وركبوا خيولهم. فنظر إليهم صاحب الصين من منظرة له، فرأى أمثال الجبال مقبلة. فلمّا دنوا ركّزوا رماحهم، ثم أقبلوا مشمّرين، فقيل لهم قبل أن يدخلوا: