« ولا هو. » حتى عدّد رجالا كان في آخرهم وكيع بن أبي سود. فقال:
« يا أمير المؤمنين، ما أحد أوجب شكرا ولا أعظم عندي يدا من وكيع. لقد أدرك بثأرى وشفاني من عدوّى، ولكنّ أمير المؤمنين أعظم حقّا عليّ وإنّ النصيحة تلزمني له. إنّ وكيعا لم يجتمع له قطّ ثلاثمائة عنان إلّا حدّث نفسه بغدرة. خامل في الجماعة نابه في الفتنة. » قال:
« صدقت. ويحك! فمن لها؟ » قال:
« رجل أعلمه لم يسمّه أمير المؤمنين. » قال:
« فمن هو؟ » قال:
« لا أبوح به إلى أن يضمن أمير المؤمنين ستر ذلك عليّ وأن يجيرني منه إن علم. » قال:
« نعم، سمّه لي من هو؟ » قال:
« يزيد بن المهلّب. » قال:
« ويحك! ذاك بالعراق، والمقام بها أحبّ إليه من المقام بخراسان. » قال:
« قد علمت يا أمير المؤمنين، ولذلك استجرت بك، ولكن تكرهه على ذلك، فتستخلف على العراق، ويسير هو. » قال:
« أصبت. » فكتب عهده على خراسان، وأنفذه إليه على يد ابن الأهتم. فقدم به على يزيد، فدعا يزيد ابنه مخلدا، فقدّمه إلى خراسان، فسار من يومه، ثم سار يزيد، واستخلف على واسط الجرّاح بن عبد الله الحكمي، وعلى البصرة عبد الله بن هلال الكوفي، وصيّر مروان بن المهلّب على أمواله وأموره بالبصرة، وكان أوثق إخوته عنده، وعلى الكوفة بشير بن حسّان النهدي. ولمّا قرب مخلد من مرو تلقّاه الناس، فتثاقل وكيع، وكان مخلد قدّم عمرو بن عبد الله بن سنان العتكي حين دنا من مرو. فأرسل عمرو بن عبد الله إلى وكيع:
« انطلق إلى أميرك فتلقّه ولا تكن أعرابيّا أحمق جافيا. » وأخرجه على كره. فلمّا بلغ الناس إلى مخلد ترجّلوا له غير وكيع ومحمد بن حمران وعبّاد بن لقيط. فجاءهم قوم، فأنزلوهم.
ولمّا قدم مخلد مرو حبس وكيعا، فعذّبه وأصحابه قبل قدوم أبيه.
فتحدّث إدريس بن حنظلة قال: لمّا قدم مخلد مرو حبسني، فجاءني ابن الأهتم، فقال لي:
« أتريد أن تنجو؟ » قلت:
« نعم. » قال:
« أخرج الكتب التي كتبها القعقاع بن خليد العبسي وخريم بن عمرو المرّى إلى قتيبة في خلع سليمان. » فقلت له:
« يا بن الأهتم إيّاى تخدع عن ديني؟ » قال: فدعا بطومار وقال:
« إنّك أحمق. » وكتب كتبا عن لسان القعقاع ورجال من قريش إلى قتيبة:
« إنّ الوليد قد مات وإنّ سليمان باعث هذا المزونيّ على خراسان، فاخلعه. » فقلت:
« يا بن الأهتم تهلك والله نفسك. لئن دخلت عليه لأعلمنّه أنّك كتبتها. » فلم يحفل وقال:
« قد قلت: إنّك أحمق. »
ذكر حيلة تمت على مسلمة بن عبد الملك في هذه السنة بأرض الروم حتى كاد يهلك هو والمسلمون

كان وجّه أخاه مسلمة إلى قسطنطينية وأمره أن يقيم عليها حتى يفتحها أو يأتيه أمره. فشتا بها وصاف، وذلك أنّه لمّا دنى من قسطنطينية أمر كلّ فارس أن يحمل على عجز فرسه مدّين من طعام حتى يأتى به قسطنطينية. فأمر بالطعام فألقى ناحية مثل الجبال. ثم قال للمسلمين:
« لا تأكلوا منه شيئا. » فغبروا في أرضهم وازدرعوا، وعمل بيوتا من خشب، فشتا فيها، وزرع الناس. ومكث ذلك الطعام في الصحراء لا يكنّه شيء طول الصيف، والناس يأكلون مما أصابوا من الغارات، ثم أكلوا من الزرع.
فأقام مسلمة على قسطنطينية قاهرا لأهلها ومعه وجوه أهل الشام. واتفق موت ملك الروم، فراسلوا إليون صاحب أرمينية، فشخص إليون من أرمينية ومكر في طريقه بمسلمة، ووعده أن يسلّم إليه قسطنطينية، وكانت قد راسلت الروم إليون:
« إن صرّفت عنّا مسلمة ملّكناك. » ووثّقوا له. فلمّا أتى إليون مسلمة، قال له:
« إنّك لا تصدقهم القتال ولا تزال تطاولهم ما دام هذا الطعام عندك، وقد أحسّوا بذلك، فلو أحرقت الطعام أعطوا بأيديهم. » فأحرقه، ووجّه مسلمة معه من شيّعه حتى نزل بقسطنطينية، وملّكه الروم.
فكتب إلى مسلمة يخبره بما جرى من أمره ويسأله أن يأذن له حتى يدخل من الطعام من النواحي، [ وما ] يعيش به القوم ويصدّقونه بأنّ أمره وأمر مسلمة واحد وأنّهم في أمان من [ السباء ] والخروج من بلادهم، وأن يأذن لهم ليلة واحدة في حمل الطعام وقد [ هيّأ ] إليون السفن والرجال. فأذن له، فما بقي في تلك الحظائر إلّا ما لا يذكر، حمل [ فى ] ليلة واحدة، وأصبح إليون محاربا وقد خدعه خديعة لو كان امرأة لعيب [ بها ]. فلقى الجند ما لم يلق جند قطّ، حتى إن كان الرجل ليخاف أن يخرج من عسكره وحده. وأكلوا الدوابّ والجلود وأصول الشجر والعروق [ و ] الورق، وكلّ شيء حتى الروث، وسليمان مقيم بدابق ونزل الشتاء، فلم يقدر [ على ] أن يمدّهم حتى هلك سليمان.
سليمان يحرض يزيد بذكر فتوح قتيبة

فأمّا يزيد بن المهلّب فإنّه أقام ثلاثة أشهر، وكان سليمان بن عبد الملك كلّما افتتح قتيبة فتحا قال ليزيد بن المهلّب:
« أما ترى ما صنع الله على يدي قتيبة؟ » فيقول له يزيد بن المهلّب:
« ما فعلت جرجان [ التي ] حالت بين الناس والطريق الأعظم وأفسدت قومس وأبر شهر. » ويقول:
« هذه الفتوح ليست بشيء في جرجان. » وكذلك كانت حال جرجان، لأنّ سعيد بن العاص كان صالح أهل جرجان. ثم إنّهم امتنعوا وكفروا، ولم يأتهم أحد بعد سعيد، ومنعوا ذلك الطريق.
فلم يكن يسلك طريق خراسان من ناحيته إلّا بوجل وخوف. كان الطريق من فارس إلى كرمان، فأوّل من صيّر الطريق من قومس قتيبة بن مسلم. ثم غزا مصقلة خراسان في أيّام معاوية في عشرة آلاف، فأصيب هو وجنده بالرّويان، فهلكوا في واد من أوديتها، أخذ العدوّ عليهم بمضائقه، فقتلوا جميعا، فهو يسمّى:
وادي مصقلة، وكان يضرب به المثل: « حتى يرجع مصقلة من خراسان ».
اهتمام يزيد بن المهلب بجرجان

فلمّا ولى يزيد بن المهلّب لم تكن له همّة غير جرجان. فخرج إلى دهستان، وبها صول التركيّ مع الأتراك، وهناك جزيرة في البحر بينها وبين دهستان خمسة فراسخ، وهي من جرجان ممّا يلي خوارزم. فكان صول يغير على فيروز مرزبان جرجان، وبينهما خمسة وعشرون فرسخا، فيصيب من أطرافهم، ثم يرجع إلى البحيرة ودهستان.
فوقع بين فيروز وبين ابن عمّ له يقال له: المرزبان، منازعة، فاعتزله المرزبان، فنزل المياسان، فخاف فيروز أن يغير عليه الترك، فخرج إلى يزيد بن المهلّب وأخذ صول جرجان. فلمّا قدم على يزيد بن المهلّب قال له:
« ما أقدمك؟ » قال:
« خفت صولا فهربت منه. » فقال له يزيد:
« هل من حيلة لقتاله؟ » قال:
« نعم، وشيء واحد إن ظفرت به قتلته، أو أعطى بيده. » قال:
« ما هو؟ » قال:
« أن يخرج من جرجان حتى ينزل البحيرة، فإن أتيته هناك وحاصرته ظفرت به، فاكتب إلى الإصبهبذ كتابا تسأله فيه أن يحتال لصول حتى يقيم بجرجان، واجعل على ذلك جعلا ومنّه، فإنّه يبعث بكتابك إلى صول يتقرّب به إليه، لأنّه يعظّمه، فيتحوّل على جرجان فينزل البحيرة. »