عمر بن عبد العزيز يحبس يزيد بن المهلب

ثم عدنا إلى حديث يزيد بن المهلّب. لمّا أقبل يزيد بن المهلّب فنزل واسطا، ركب منها السفن يريد البصرة. فبعث عديّ من منعه وأوثقه، ثم بعث به إلى عمر بن عبد العزيز، وكان عمر يبغض يزيد وأهل بيته ويقول:
« هم جبابرة، ولا أحبّ أمثالهم. » وكان يزيد يبغض عمر ويقول: « إني لأظنّه مرائيا. » فلمّا ولى عمر عرف يزيد أنّ عمر كان من الرئاء بعيدا.
ولمّا وصل يزيد إلى عمر سأله عن الأموال التي كتب بها إلى سليمان. فقال:
« كنت من سليمان بالمكان الذي قد علمت، وإنّما كتبت إلى سليمان لأسمع الناس به، وكنت علمت أنّ سليمان لم يكن ليأخذنى بشيء سمّعت به، ولا بأمر أكرهه. » فقال له:
« لا أجد في أمرك إلّا حبسك، فاتّق الله وأدّ ما قبلك، فإنّها حقوق المسلمين ولا يسعني تركها. » وردّه إلى محبسه.
وبعث الجرّاح بن عبد الله الحكمي، فسرّحه إلى خراسان.
وأقبل مخلد بن يزيد من خراسان يعطى الناس، لا يمرّ بكورة إلّا أعطاهم فيها أموالا عظاما، حتى قدم على عمر بن عبد العزيز. فدخل عليه، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
« إنّ الله، يا أمير المؤمنين، صنع لهذه الأمّة بولايتك عليها، وقد ابتلينا بك، فلا نكن أشقى الناس بولايتك، علام تحبس هذا الشيخ؟ أنا أتحمّل ما عليه، فصالحنى على ما إيّاه تسأل. » فقال عمر:
« لا، إلّا أن تحمل جميع ما إيّاه نسأل. » فقال:
« يا أمير المؤمنين، إن كانت لك بيّنة فخذه بها، وإن لم تكن بيّنة فصدّق مقالة يزيد، وإلّا فاستحلفه، فإن لم يفعل فصالحه. » فقال عمر:
« ما أجد إلّا أخذه بجميع المال. » فلمّا خرج مخلد من عند عمر، قال:
« هذا خير عندي من أبيه. » ولمّا أبي يزيد أن يؤدّى إلى عمر شيئا، ألبسه جبّة صوف وحمله على جمل وقال:
« سيروا به إلى الدهلك. »
فلمّا أخرج، فمرّ به على الناس أخذ يقول:
« أما لي عشيرة؟ ما لي يذهب بي إلى دهلك! وإنّما يذهب إلى دهلك بالفاسق المريب الحارب. سبحان الله! أما لي عشيرة. » فدخل على عمر سلامة بن نعيم الحولاني، فقال:
« يا أمير المؤمنين، اردد يزيد إلى محبسه، فإني أخاف إن أمضيته أن ينتزعه قومه. فإني قد رأيت قومه غضبوا له. » فردّه إلى محبسه. فلم يزل في محبسه ذلك حتى بلغه مرض عمر. فأخذ يعمل في الهرب من محبسه مخافة يزيد بن عبد الملك، لأنّه قد كان عذّب أصهاره، وكان يزيد بن عبد الملك قد عاهد الله: لئن أمكنه الله من يزيد ليقطعنّ منه طابقا.
فكان يخشى ذلك. فبعث يزيد بن المهلّب إلى مواليه، فأعدّوا له إبلا، وخرج حتى حاز مراصد عمر. وكتب إلى عمر بن عبد العزيز:
« إني والله لو علمت أنّك تبقى ما خرجت من محبسى، ولكني لم آمن يزيد بن عبد الملك. » وقد قيل: إنّ يزيد بن المهلّب إنّما هرب من سجن عمر بعد موت عمر.
وكانت خلافة عمر سنتين وخمسة أشهر. ومات وهو ابن تسع وثلاثين سنة.
ذكر بعض سيرة عمر بن عبد العزيز

كان الجرّاح بن عبد الله لمّا ولى خراسان استخرج الجزية من كلّ من اتّهم إسلامه. فكتب عمر إليه:
« أنظر من صلّى إلى القبلة قبلك، فضع عنه الجزية. » فسارع الناس إلى الإسلام. فقيل للجرّاح:
« إنّ الناس قد سارعوا إلى الإسلام. وإنّما ذلك تعوّذ من الجزية، فامتحنهم بالختان. » فكتب الجرّاح بذلك إلى عمر. فكتب عمر إليه:
« إنّ الله بعث محمّدا داعيا ولم يبعثه خاتنا. » وقال عمر:
« أبغونى رجلا صدوقا أسأله عن خراسان. » فقيل له:
« قد أصبته، عليك بأبي مجلز. » وكان الجرّاح لمّا قدم خراسان، كتب إلى عمر: « إني قدمت خراسان، فوجدت قوما قد أبطرتهم الفتنة، فهم ينزون فيها نزوا. أحبّ الأمور إليهم أن تعود ليمنعوا حقّ الله عليهم، فليس يكفّهم إلّا السيف والسوط، وكرهت الإقدام على ذلك إلّا بإذنك. » فكتب إليه عمر:
« يا بن أمّ الجرّاح! أنت أحرص على الفتنة منهم، لا تضربنّ مؤمنا ولا معاهدا سوطا إلّا في حقّ، واحذر القصاص، فإنّك صائر إلى من يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، وتقرأ كتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها. » وكتب إليه أن:
« احمل معك أبا مجلز، وخلّف على خراسان عبد الرحمن بن نعيم الغامدى، وعلى جزيتها عبد الله بن حبيب. »
ولمّا قدم أبو مجلز لاحق ابن حميد على عمر، وكان رجلا لا تأخذه العين، دخل على عمر في غمار الناس، فلم يثبته عمر، وخرج مع الناس. فقيل لعمر وقد سأل عنه بأنه:
« دخل مع الناس، ثم خرج. » فدعا به عمر، فقال: « يا با مجلز، إني لم أعرفك. » قال:
« فهلّا - يا أمير المؤمنين - أنكرتنى إذ لم تعرفني. » قال:
« أخبرني عن عبد الرحمن بن عبد الله. » قال:
« يكافئ الأكفاء، ويعادى الأعداء، وهو أمير يفعل ما يشاء، ويقدم، إن وجد من يساعده. » قال:
« فعبد الرحمن بن نعيم؟ » قال:
« ضعيف ليّن يحبّ العافية، وتأتّى له. » قال:
« الذي يحبّ العافية وتأتّى له أحبّ إليّ. » فولّاه الحرب والصلاة، وولّى عبد الرحمن القشيري الخراج.
وكتب إلى أهل خراسان:
« إني استعملت على حربكم عبد الرحمن بن نعيم، وعبد الرحمن بن عبد الله على خراجكم من غير معرفة مني بهما ولا اختيار إلّا ما أخبرت عنهما، فإن كانا على ما تحبّون فاحمدوا الله، وإن كانا على غير ذلك فاستعينوا بالله ولا حول ولا قوّة إلّا بالله. »