« يا حيّان، انطلق إلى أخيك فإنّه حدث وأخاف عليه. » فأبى، فقال:
« يا بنيّ، إنّك إن قتلت على حالك هذه، قتلت عاصيا. » فرجع إلى الموضع الّذى خلّف فيه أخاه والبرذون فإذا أخوه قد لحق بالعسكر وقد شدّ البرذون، فقطع حيّان مقوده وركبه، فإذا العدوّ قد أحاطوا بالموضع الّذى خلّف فيه أباه وأصحابه، فأمدّهم الجنيد بنصر بن سيّار وبسبعة فيهم جميل بن غزوان. فدخل عبيد الله بن زهير معهم، وشدّوا على العدوّ، فكشفوهم، ثم كرّوا عليهم، فقتلوا جميعا، فلم يفلت أحد ممّن كان في ذلك الموضع. قتل عبيد الله بن زهير، وابن حوذان، وابن حرفاس، والفضيل بن هنّاد، وجالت الميمنة والجنيد واقف في القلب، فأقبل إلى الميمنة، فوقف تحت راية الأزد، وقد كان جفاهم.
فقال له صاحب راية الأزد:
« ما جئتنا لتحبونا ولا لتكرمنا، ولكنّك قد علمت أنّه لا يوصل إليك ومنّا رجل حي، فإن ظفرنا كان لك، وإن هلكنا لم تبك علينا، ولعمري، لئن ظفرنا وبقيت لا أكلّمك كلمة أبدا. » وتقدّم، فقتل، وأخذ الرّاية ابن مجّاعة، فقتل، فتناول الرّاية ثمانية عشر رجلا من الأزد.
قال: وصبر النّاس يقاتلون حتى أعيوا. فكانت السّيوف لا تحيك ولا تقطع شيئا، فقطع عبيدهم الخشب يقاتلون به! حتى ملّ الفريقان. فكانت المعانقة، فتحاجزوا. فقتل من الأزد خلق، وفيهم الفضيل الحارثي صاحب الخيل. وقتل يزيد بن الفضل الحدّانى، وكان حمل يوم الشّعب على مائة بعير سويقا للمسلمين، فجعل يسأل عن النّاس، فلا يسأل عن أحد إلّا قيل له: « قتل. » فاستقدم وهو يقول:
« لا إله إلّا الله. » فقاتل حتى قتل.
وقاتل يومئذ محمّد بن عبد الله بن حوذان وهو على فرس أشقر، عليه تجفاف مذهّب. فحمل سبع مرّات يقتل في كلّ مرّة رجلا، ثم يرجع إلى موقفه، فهابه كلّ من كان في ناحيته.
فناداه التّرجمان من قبل خاقان:
« يقول لك الملك: لا تستقتل، وتحوّل إلينا، فنرفض صنمنا الّذى نعبده، ونعبدك ».
فقال محمّد:
« إنما أقاتلكم لتتركوا عبادة كلّ شيء، وتعبدوا الله وحده. » وقاتل حتى استشهد.
وقتل جشم بن قريظ الهلالي، وقتل النّضر بن راشد العبدى، وكان دخل على امرأته والنّاس يقتتلون، فقال لها:
« كيف أنت إذا أتيت بابى ضمرة في لبد مضرّجا بالدّماء؟ » فشقّت جيبها، ودعت بالويل. فقال:
« حسبك، لو أعولت كلّ أنثى عليّ اليوم، لعصيتها شوقا إلى الجنّة. »
وقاتل حتى استشهد.
وبينا النّاس كذلك، إذ أقبل رهج، وطلعت فرسان.
فنادى منادى الجنيد:
« الأرض، الأرض. » فترجّل، وترجّل معه النّاس. ثم نادى منادى الجنيد:
« ليخندق كلّ قائد على حياله. » فخندق النّاس فتحاجزوا. وأصبحوا يوم السبت، فأقبل خاقان نصف النّهار، فلم ير موضعا القتال فيه أيسر من موضع بكر بن وائل، وعليهم زياد بن الحارث، فقصدوهم.
فقالت بكر لزياد:
« إن القوم قد كثروا، فخلّنا نحمل عليهم قبل أن يحملوا علينا. » فقال لهم:
« قد مارست منذ سبعين سنة أنّكم إن حملتم عليهم فصعدتم انبهرتم، ولكن دعوهم حتى يقربوا. » ففعلوا. فلمّا قربوا منهم، حملوا عليهم، فأخرجوا لهم، فسجد الجنيد.
وقال خاقان يومئذ:
« إنّ العرب إذا أحرجوا استقتلوا. فخلّوهم حتى يخرجوا، ولا تعرّضوا لهم. » وخرج جوار للجنيد يولولن، فانتدب رجال من أهل الشّام، فقالوا:
« الله الله، يا أهل خراسان، إلى أين؟ »
وقال [ الجنيد ]:
« ليلة كليلة الجرّاح، ويوم كيومه. » فقيل له:
« لم، أصلحك الله؟ » قال:
« إن الجرّاح سير إليه بآذربيجان، فقتل أهل الحجى والحفاظ. فلمّا جنّ عليه الليل انسلّ النّاس تحت الظّلمة إلى مدائن لهم بآذربيجان، وأصبح الجرّاح في قلّة، فقتل. »
سبب قتل سورة بن أبجر

وفي هذه الغزوة، قتل سورة بن أبجر التّميمى. وكان سبب ذلك أنّ عبد الله بن حبيب قال للجنيد:
« اختر بين أن تهلك أنت أو سورة. » فقال:
« هلاك سورة أهون عليّ. » قال:
« فاكتب إليه، فليأتك في أهل سمرقند، فإنّ التّرك إن بلغهم أنّ سورة قد توجّه إليك انصرفوا إليه، فقاتلوه. » فكتب إلى سورة يأمره بالقدوم عليه، وقيل: كتب إليه: « أغثنى. » فقال عبادة بن السّليل لسورة:
« انظر أبرد بيت بسمرقند، فنم فيه. فإنّك إن خرجت لا تبالي أسخط عليك الأمير، أم رضى. » وقال له حليس بن غالب الشّيبانى:
« إنّ التّرك بينك وبين الجنيد، فإن خرجت كرّوا عليك، فاختطفوك. »
فكتب إلى الجنيد:
« إني لا أقدر على الخروج. » فكتب إليه الجنيد:
« يا بن اللخناء، لتقدمنّ، أو لاوجّهنّ شدّاد بن خالد الباهلي وكان له عدوّا فاقدم، وضع فلانا بفرّخشاذ في خمسمائة ناشب، والزم الماء، فلا تفارقه. » فأجمع على المسير. فقال له الوجف بن خالد العبدى:
« إنّك لهلك نفسك والعرب ومن معك بمسيرك. » قال:
« لا بدّ. » فقال له عبادة وحليس:
« أمّا إذا أبيت فخذ على النّهر. » فقال:
« أنا لا أصل إليه على النّهر في يومين، وبيني وبينه من هذا الوجه ليلة فأصبّحه، فإذا سكنت الرّجل سرّ فصبّحته. »
ذكر إفشاء سره في ذلك حتى هلك هو ومن معه

فكان خطأه في هذا الرّأى أن أظهره، وكان ينبغي أن يعرّض بغير الطّريق [ الّذى ] يسلكه. فلمّا قال ما قاله، جاءت عيون الأتراك إلى خاقان، فأخبروه بما عزم عليه سورة.
وأمر سورة بالرّحيل، واستخلف على سمرقند موسى بن أسود، وخرج في اثنى عشر ألفا. فأصبح على رأس جبل دلّه عليه علج. فتلقّاه خاقان حين أصبح، وقد سار ثلاثة فراسخ، وبينه وبين الجنيد فرسخ.
فقال بعض الرّواة وهو أبو الذّيّال: