« إن كنتم لا بدّ مفارقيّ وطلبتم الأمان فاطلبوه وأنا شاهد، فإنّه أجدر أن يجيبوكم، وإن ارتحلت قبل ذلك لم تعطوا الأمان. » فقالوا:
« ارتحل أنت عنّا وخلّنا. » ثم بعثوا من يطلب لهم الأمان، فوصل أسدا الرّسول وأحسن إليه.
فقال الرّسول:
« إنّ القوم في القلعة، ليس لهم طعام ولا ماء. » فغدر بهم وسرّح أسد جديعا الكرماني في ستّة آلاف. فلمّا كان بينه وبين القلعة فرسخ أو دونه، نزل حتى وافاهم قوم فيهم المهاجر بن ميمون في جماعة مستأمنة. فتركهم حتى اجتمعوا. ثم خطبهم فقال بعد حمد الله والثّناء عليه:
« يا أهل بلخ، لا أجد لكم مثلا غير الزّانية من أتاها أمكنته من رجلها.
أتاكم الحارث في ألف من العجم فأمكنتموه من مدينتكم، فقتل أشرافكم وطرد أميركم. ثم سرتم معه مكانفيه إلى مرو فخذلتموه. ثم انصرف إليكم منهزما، فأمكنتموه من المدينة. والّذى نفسي بيده، لا يبلغني عن رجل منكم كتب كتابا إليهم في سهم إلّا قطعت يديه ورجليه. فأمّا من كان معي من أهل مرو فهم خاصّتى، ولست أخاف غدرهم. » ثم نهد إلى القلعة وحصرها وكان القوم مجهودين، قد جاعوا وعطشوا.
فنادى مناديه أن:
« قد نبذنا إليكم بالعهد. » وقاتلوهم. فسألوا أن ينزلوا على الحكم وتترك نساؤهم وأولادهم، فنزلوا على حكم أسد. وأقام حتى رجع إليه جواب كتابه من أسد على يد المهلّب بن عبد العزيز العتكيّ بكتاب يقول فيه:
« احمل إليّ خمسين رجلا منهم، وليكن فيهم المهاجر بن ميمون وأمثاله من وجوههم. » ففعل، فقتلهم أسد.
وكتب إلى الكرماني أن يصيّر الّذين بقوا عنده أثلاثا. فثلثا يصلبهم، وثلثا يقطع أيديهم وأرجلهم، وثلثا يقطع أيديهم. ففعل ذلك الكرماني وباع أثقالهم وذراريّهم كما حكينا.
موت علي بن عبد الله بن العباس

وفي هذه السّنة مات عليّ بن عبد الله بن العبّاس وله ثمان وسبعون سنة، وكان ولد في الليلة الّتى ضرب فيها عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - فسمّاه عبد الله بن العبّاس أبوه عليّا وكنّاه أبا الحسن وقال:
« سمّيته باسم أحبّ النّاس إليّ. »
ودخلت سنة تسع عشرة ومائة

وفيها لقي أسد صاحب التّرك، فقتله وغنم كلّ ما معه، وقتل خلقا، وسلم أسد والمسلمون.
ذكر الخبر عن هذه الوقعة

لمّا دخل أسد الختل كتب ابن السّائجى إلى خاقان يعلمه دخول أسد الختّل، وتفرّق جنده، وأنّه بحال مضيعة.
وكان ابن السّائجى هذا استخلفه السّيل عند موته وأوصى إليه. وسيجيء خبره إن شاء الله.
فلمّا أتاه كتابه تجهّز، وكان لخاقان مرج وجبل حمى لا يقربها أحد. فصاد ما في المرج ثلاثة أيام وما في الجبل ثلاثة أيام. فتجهّزوا ودبغوا جلود الصّيد، واتّخذوا أوعية، واتّخذوا القسّى والنّشّاب، ودعا خاقان ببرذون مسرّج ملجم، وأمر بشاة فقطّعت، ثم علّقها في معاليق سرجه، وأخذ شيئا من ملح، فصيّره في كيس وجعله في منطقته، وأمر كلّ تركيّ أن يفعل مثل ذلك وقال:
« هذا زادكم حتى تلقوا العرب بالختّل. » فلمّا أحسّ ابن السّائجى بخاقان قد أقبل، بعث إلى أسد:
« أخرج عن الختّل، فإنّ خاقان قد أظلّك. » فشتم أسد رسوله ولم يصدّقه. فبعث صاحب الختّل:
« إني لم أكذبك، وأنا الّذى أعلمته دخولك وتفرّق جندك. وأعلمته أنّها فرصة له، وسألته المدد. غير أنّى نظرت فرأيت أنّك قد أمعرت البلاد وأصبت الغنائم. فإن لقيك على هذه الحالة ظفر بك، وعادتنى العرب أيضا ما بقيت، واستطال عليّ خاقان، واشتدّت مؤنته، وأمتنّ عليّ يقول: أخرجت العرب من بلادك ورددت عليك ملك. » فعرف أسد أنّه صدقه، فأمر بالأثقال أن تقدّم، وولّى عليها إبراهيم بن عاصم العقيليّ، وهو الّذى ولى سجستان بعد، وأخرج معه المشيخة. فسارت الأثقال.
وكتب أسد إلى داود بن شعيب والأصبغ بن ذؤالة الكلبي وقد كان وجّهها في وجه أنّ خاقان قد أقبل. فانضمّا إلى الأثقال مع إبراهيم بن عاصم. ووقع إلى داود والأصبغ رجل دبوسى، فأشاع أنّ خاقان قد هزم المسلمين وقتل أسدا.
فقال الأصبغ:
« إن كان أسد ومن معه أصيبوا، فإنّ فيئتنا هشام ننحاز إليه، فإنّ الله حيّ قيّوم وجنود المسلمين كثير. » قال داود:
« [ أ ] فلا ننظر ما فعل أسد فنخرج على علم؟ » قال: « بلى. » فسارا حتى شارفا عسكر إبراهيم. فإذا هما بالنّيران.
فقال داود: « هذه نيران المسلمين، لأنّها متقاربة، ونيران الأتراك متفرّقة. »
فقال الأصبغ: « هم في مضيق. » ثم دنوا، فسمعوا نهيق الحمير.
فقال داود:
« أما علمت أنّ التّرك ليس لهم حمير؟ » فقال الأصبغ:
« أصابوها بالأمس، ولم يستطيعوا أكلها في يوم ولا اثنين. » فقال داود:
« نسرّح فارسيّين فيكبّران. » فبعثا إلى العسكر بهما. فلمّا دنوا منهم كبّرا، فأجابهما أهل العسكر بالتكّبير.
فأقبلوا إلى العسكر الّذى فيه الأثقال، ومع إبراهيم أهل الصّغانيان وصاغان خذاه. فضامّا إبراهيم بن عاصم.
وأقبل أسد يريد أن يخوض نهر بلخ، وقد كان إبراهيم قطعه بالسّبى وجميع ما أصاب. فلمّا أشرف أسد على النّهر، وقد أتاه أنّ خاقان قد سار من الشومان سبع عشرة ليلة، قام إليه أبو نميلة بن بحر وعبد الرّحمن بن حيفر الأزديان، فقالا:
« أصلح الله الأمير، إنّ الله قد أحسن بلاءك في هذه الغزوة، فغنمت وسلمت، فاقطع هذه النّطفة واجعلها وراء ظهرك. » فأمر بهما، فوجئت رقابهما وأخرجا من العسكر، وأقام يومه.
فلمّا كان من الغد ارتحل وفي النّهر ثلاثة وعشرون موضعا يخوضه النّاس، وموضع فيه مجتمع ماء يبلغ دفّتى السّرج. فخاضه النّاس. وأمر أن يحمل كلّ رجل شاة، وحمل هو نفسه شاة.
وقال له غسّان بن عبيد الله بن مطرّف بن الشّخّير: