« أمّا هذا، فلا يأتى أهله أبدا. » ولم يزل هذا ديدنه حتى قتل ستّة، فانهزموا ودخلوا الدّير، وحاصرهم حتى جاءتهم الأمداد، وكانوا عشرين ألفا.
فقال له أصحابه:
« ألا نعقر دوابّنا ثم نشدّ عليهم شدّة واحدة؟ » فقال:
« لا، حتى نبلى عذرا ما استمسكنا على دوابّنا. » فقاتلوهم عامّة نهارهم حتى فشا فيهم القتل والجراح.
ثم إنّ بهلولا نزل هو وأصحابه، فعقروا دوابّهم وترجّلوا لهم، وأصلتوا السّيوف وقتل عامة أصحاب البهلول، وهو يقاتل ويذود عن أصحابه، إلى أن حمل عليه رجل يكنّى أبا الموت، فصرعه، فارتثّه من بقي من أصحابه، وقالوا له:
« ولّ أمرنا من بعدك من يقوم به. » فقال:
« إن هلكت، فأمير المؤمنين دعامة الشّيبانى. » ومات البهلول في ليلته، وهرب دعامة قبل الصّبح.
ثم دخلت سنة عشرين ومائة

وفيها هلك أسد بن عبد الله من دبيلة كانت في جوفه، فاستخلف جعفر بن حنظلة البهراني، فعمل أربعة أشهر، وجاء عهد نصر بن سيّار في رجب سنة احدى وعشرين.
وفي هذه السنّة وجّهت شيعة بنى العبّاس بخراسان إلى محمد بن عليّ بن عبد الله بن العبّاس سليمان بن كثير، ليعلمه أمرهم وما هم عليه.
سبب توجيههم سليمان إلى محمد

والسّبب في ذلك موجدة كانت من محمّد بن علي، على من كان بخراسان من شيعته من أجل طاعتهم كانت لخداش الّذى ذكرنا خبره وقبولهم منه الكذب الّذى رواه لهم عنه. فلمّا أبطأ كتابه اجتمعوا، فذكروا ذلك منهم، فأجمعوا على الرّضا بسليمان بن كثير ليلقاه بأمرهم ويخبره عنهم ويرجع إليه بما يرد عليه. فقدم سليمان بن كثير على محمّد بن عليّ وهو متنكّر، فأخبره عنهم بطاعة وخير، فعنّفهم وقال:
« لعن الله خداشا ومن كان على رأيه ومن سمع مقالته فأجابه إليها. » ثم صرف سليمان إلى أهل خراسان فسأله أن يكتب إليهم معه كتابا، فكتب كتابا وختمه. فلمّا قدم عليهم سليمان فضّوا خاتم الكتاب، فلم يجدوا فيه إلّا « بسم الله الرّحمن الرّحيم »، فغلظ ذلك عليهم وعلموا أنّ ما كان من خداش أتاهم به مخالف لأمره. ثم أنفذ محمّد بن عليّ بكير بن ماهان إلى شيعته بخراسان وبعث معه بعصيّ مضبّبة بعضها بالحديد وبعضها بالشّبّة.
فقدم بها بكير وجمع النّقباء والشّيعة ودفع إلى كلّ رجل منهم عصا، فعلموا أنهم عصاة، فرجعوا، وتابوا واعتذروا إلى بكير.
وفي هذه السّنة عزل هشام خالد بن عبد الله عن أعماله كلّها
ذكر السبب في عزل خالد بن عبد الله القسري ونكبته

كان السّبب في ذلك سكرة عرضت لخالد من طول الولاية وعزّ الإمرة وكثرة ما اجتمع عنده من الأموال. فمن ذلك أنّ كاتبا كان لابنه خلا به يوما فقال له:
« كم غلّة ابني؟ » فقال:
« قد زاد على عشرة آلاف ألف درهم. » فقال:
« ابني مظلوم. ما تحت قدمي من شيء إلّا وهو له. » يعنى أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه جعل لبجيلة ربع السّواد. وكان خالد قد اتخذ بالعراق أموالا، وحفر أنها را حتى بلغت غلّته عشرين ألف ألف درهم، وكان كثيرا ما يقول في خلواته عند من يأنس به:
« هذا ابن الحمقاء. » يعنى هشاما. وكانت أمّ هشام مستحمقة، فتكلّم فيه أولاد هشام وحسدوه وسبعوه هم وأهل بيت مروان، وكان أحد الأسباب الّذى غاظ هشاما أنّه دخل على خالد رجل من قريش من أولاد سعيد بن العاص، أو عمرو بن العاص، فتبسّط عنده، فاستخفّ به خالد وعضّه بلسانه. فكتب إلى هشام يشكوه.
فكتب هشام إلى خالد:
كتاب هشام إلى خالد القسري

« أمّا بعد، فإنّ أمير المؤمنين، وإن كان أطلق يدك ورأيك في من استرعاك أمره واستحفظك عليه للّذى من كفايتك ووثق به من حسن تدبيرك، لم يفرشك غرّة أهل بيته لتطأه بقدمك ولا تحدّ إليه بصرك، فكيف بك وقد بسطت عليه لسانك تريد بذلك تصغير خطره واحتقار قدره. زعمت بالنّصفة منه حتى أخرجك ذلك إلى الإغلاظ له في اللفظ بمحضر العامّة غير متحلحل له حين رأيته مقذّا من صدر مهادك الّذى مهّدك الله فيه، وفي قومك من يعلوك بحسبه، ويغمرك بأوّليته، فنلت مهادك بما رفع به آل عمرو من ضعتك خاصّة، مساورين بك فروع غرر القبائل وقرومها قبل أمير المؤمنين، حتى حللت هضبته صرت تنحو بها عليهم مفتخرا. هذا إن لم تدهده بك قلّة شكرك متحطّما وقيذا.
« فهلا يا ابن محرّشة قومه، أعظمت رجلهم داخلا عليك وخارجا، ووسّعت مجلسه إذا رأيته مقبلا إليك، وتجافيت له عن صدر فراشك مكرما، ثم فاوضته مقبلا عليه ببشرك، إكراما لأمير المؤمنين، فإذا اطمأنّ به مجلسه نازعته نجّى السّرار. معظّما لقرابته، عارفا بحقّه. فهو سنّ البيتين ونابهم وابن شيخ آل أبي العاص وحرب وغرّتهم.
« وبالله يقسم أمير المؤمنين لولا ما تقدّم من حرمتك، وما يكره من شماتة عدوّك بك، لوضع ما رفع من قدرك، حتى [ يردّك إلى حال ] تفقد بها أهل الحوائج بعراقك، وتزاحم المواكب ببابك، وما أقربنى من أن أجعلك تابعا لمن كان لك تبعا.
« فانهض على أيّ حال ألفاك رسول أمير المؤمنين وكتابه من ليل أو نهار ماشيا على قدميك بمن معك من حولك، حتى تقف بباب ابن عمرو صاغرا مستأذنا عليه، متنصّلا إليه، إذن لك أو منعك، فإن حرّكته عواطف رحمه احتملك، وإن احتملته حميّته وأنفته من دخولك عليه، فقف ببابه حولا غير متحلحل ولا زائل، ثم أمرك إليه بعد: عزل أو ولّى، انتصر أو عفا.
« فلعنك الله من متّكل عليه بالثّقة، ما أكثر هفواتك، وأقذع لأهل الشّرف ألفاظك الّتى لا تزال تبلغ أمير المؤمنين من إقدامك بها على من هو أولى بما أنت فيه من ولاية مصري العراق وأقدم وأقوم، وقد كتب أمير المؤمنين إلى ابن عمّه بما كتب به إليك من إنكاره عليك ليرى في العفو عنك والسّخط عليك رأيه، مفّوضا ذلك إليه، مبسوطة فيه يده، محمودا عند أمير المؤمنين على أيّها أتى إليك موفّقا إن شاء الله. »
وكتابه إلى ابن عمرو:
« أمّا بعد، فقد بلغ أمير المؤمنين كتابك، وفهم ما ذكرت من بسط خالد عليك لسانه في مجلس العامّة، محتقرا لقدرك، مستصغرا لقرابتك بأمير المؤمنين، وعواطف رحمه عليك، وإمساكك عنه تعظيما لأمير المؤمنين وسلطانه، وتمسّكا بوثائق عصم طاعته، على مؤلم ما تداخلك من قبائح ألفاظه، وشرارة منطقه، وإكبابه عليك عند إطراقك عنه مروّيا في ما أطلق أمير المؤمنين من لسانه، وأطال من عنانه، ورفع من ضعته، ونوّه من خموله. كذلك أنتم آل سعيد في مثلها عند هذر الذّنابى، وطائشة أحلامها، صمت غير ما إفحام، بل بأحلام تخفّ بالجبال، وقد حمد أمير المؤمنين تعظيمك إيّاه، وتوقيرك سلطانه وسكره، وقد جعل أمر خالد إليك في عزله وإقراره، فإن عزلته أمضى عزلك إيّاه، وإن أقررته فتلك منّة لك عليه لا يشركك أمير المؤمنين فيها.
« وقد كتب إليه أمير المؤمنين بما يطرد عنه سنة الهاجع عند وصوله له، يأمره بإتيانك، راجلا على أيّة حالة صادفه كتاب أمير المؤمنين وألفاه رسوله الموجّه إليك من ليلة أو نهاره، حتى يقف ببابك، أذنت له أو حجبته، أقررته أو عزلته.
« وتقدّم أمير المؤمنين إلى رسوله في ضربه بين يديك عشرين سوطا على رأسه، إلّا أن تكره أن يناله ذلك بسببك لحرمة خدمته، فأيّهما رأيت إمضاءه كان لأمير المؤمنين في برّه لك وتعظيمه حرمتك وقرابتك وصلة رحمك موافقا وإليه حبيبا في ما ينوي من قضاء حقّ آل أبي العاص وسعيد.
« فكاتب أمير المؤمنين مبتدئا ومجيبا ومحادثا وطالبا، ما عسى أن ينزل بك أهلك من حوائجهم التي تقعد بهم الحشمة عن تناولها من قبله لبعد دارهم عنه، وقلّة إمكان الخروج لإنزالها به غير محتشم من أمير المؤمنين، ولا مستوحش من تكرارها عليه على قدر قرابتهم وأديانهم وأسنانهم، مستميحا ومسترفدا ومطالبا مستزيدا، تجد إليك أمير المؤمنين سريعا بالبرّ لما يحاول من صلة قرابتهم، وقضاء حقوقهم.
« وبالله يستعين أمير المؤمنين على ما ينوي، وإليه يرغب في العون على قضاء حقوق قرابته، وعليه يتوكّل، وبه يثق، والله وليّه ومولاه، والسّلام. »
جناية خالد على نفسه

وممّا جناه خالد على نفسه، أنّ رجلا يقال له: فرّوخ كان قد تقبّل من ضياع هشام بن عبد الملك بموضع يقال له: نهر الرّمان فكان يدعى لذلك: فرّوخ الرمّانى فثقل مكانه على خالد.
فقال خالد لحسّان النّبطى:
« ويحك، اخرج إلى أمير المؤمنين، وزد على فرّوخ. » فخرج حسّان، فزاد عليه ألف ألف، فبعث معه هشام رجلين من صلحاء أهل الشّام، فحاز الضياع، فصار حسّان أثقل على خالد من فرّوخ، فجعل يضرّبه ويوذيه، فيقول حسّان له:
« لا تفسدنى وأنا صنيعتك. » فأبى إلّا الإضرار به حتى بثق عليه البثوق. فخرج حسّان إلى هشام، فقال:
- إنّ خالدا بثق البثوق على ضياعك. » فوجّه هشام رجلا، فنظر إليها، ثم رجع فأخبره.
وأقام حسّان يفسد أمر خالد حتى قال يوما لخادم من خدم هشام:
« إن تكلّمت بكلمة أقولها لك حيث يسمع هشام، فلك عندي ألف دينار. » قال:
« فعجّل لي الألف، وأقول ما شئت. » فعجّلها له وقال له:
« بكّ صبيّا من صبيان هشام، فإذا بكى فقل له: اسكت والله لكأنّك ابن خالد القسري الّذى غلّته ثلاثة عشر ألف ألف. » ففعل. فسمعها هشام، ودارت في نفسه. فلمّا دخل عليه حسّان، قال: