« أراد نصر الغدر بي. » فأرسل الحارث إلى نصر:
« إنّا لا نرضى بك إماما. » فأرسل إليه نصر:
« كيف يكون لك عقل وقد أفنيت عمرك في أرض الشرك، وغزوت المسلمين بالمشركين، أترانى أتضرّع إليك أكثر ممّا تضرّعت؟ » وأسر يومئذ جهم بن صفوان صاحب الجهمية فقال لسلم:
« إنّ لي عقدا من ابنك حارث. » قال:
« ما كان ينبغي له أن يفعل، ولو فعل ما آمنتك ولو ملأت لي هذه الملاءة كواكب والله لو كنت في بطني لشققت بطني حتى أقتلك لا والله لا تقوم علينا مع اليمانية أكثر ممّا قمت. » وأمر عبد ربّه بن سيسن فقتله.
ولمّا هزم نصر الحارث أتى الحارث فازة الكرماني حتى دخلها ومع الكرماني داود بن شعيب الحدانى، ومحمد بن المثنّى، فأقيمت الصلوة، فصلّى بهم الكرماني. فلمّا كان من الغد سار الكرماني إلى ناحية باب ميدان يزيد، فقاتل أصحاب نصر، فقتل جماعة، وأخذوا علم عثمانى الكرماني وتقاتلوا يوم الأربعاء، ثم تحاجزوا ولم يكن بينهم يوم الخميس قتال، والتقوا يوم الجمعة، فانهزمت الأزد حتى وصلوا إلى الكرمانيّ فأخذ اللواء بيده فقاتل به.
وحمل خضر بن تميم فرموه بالنشّاب وحمل عليه خنيس مولى نصر فطعنه في حلقه. فأخذ الخضر السنان بيده اليسرى فشبّ به فرسه وطعن خنيسا فأذراه عن برذونه وقتلته رجّالة الكرمانيّ بالعصيّ وانهزم أصحاب نصر وصرع تميم بن نصر وأخذوا له برذونين أخذ أحدهما السغدى والآخر الخضر.
ولحق الخضر سلم بن أحوز فتناول من ابن أخيه عمودا فضربه وصرعه.
فحمل عليه رجلان من تميم فهرب فرمى سلم بنفسه تحت القناطر وبه بضع عشرة ضربة على بيضته فسقط فحمله رجل إلى عسكر نصر وانصرفوا.
فلمّا كان في بعض الليل خرج نصر عن مرو، وقتل عصمة بن عبد الله الأسدى وكان يحمى أصحاب نصر. ولمّا هزمت اليمانية المضريّة أرسل الحارث إلى نصر:
« إنّ اليمانية يعيّروننى بانهزامكم وأنا كافّ، فاجعل حماة أصحابك بإزاء الكرمانيّ. » فبعث إليه نصر يزيد النحويّ أو خالدا يتوثّق منه أن يفي بما بذله من الكفّ. وإنّما كفّ الحارث عن قتال نصر لأنّ عمر بن الفضل الأزدي وأهل بيته وعبد الجبّار بن العدوى وخالد بن عبيد الله وعامّة أصحابه كانوا نقموا على الكرمانيّ ما فعله أهل التبوشكان. وذلك أنّ أسدا كان وجّه إليهم فنزلوا إليه على حكم أسد فبقر بطون جماعة وألقاهم في نهر بلخ وقطع أيدى ثلاثمائة منهم وأرجلهم وقتل ثلثا وصلب ثلثا وباع أثقالهم فيمن يزيد. فنقموا على الحارث معاونته الكرمانيّ وقتاله نصرا.
فأقام نصر بمرو أربعة أيّام ثم خرج إلى نيسابور ومعه سلم بن أحوز وسلم بن عبد الرحمن وقال نصر لنسائه:
« إنّ الحارث سيخلفنى فيكنّ ويحميكنّ. »
فلمّا قرب من نيسابور أرسل إليه أهلها:
« ما أقدمك، وقد أظهرت العصبية وكان أمرا قد أطفأه الله؟ » وكان عامل نصر على نيسابور ضرار بن عيسى العامريّ فأرسل إليهم نصر بن سيّار سنانا الأعرابيّ ومسلم بن عبد الرحمن وسلم بن أحوز فكلّموهم حتى خرجوا وتلقّوا نصرا بالمواكب والهدايا والجواري.
وقدم من مكّة على نصر عبد الحكم بن سعد وأبو جعفر عيس. فقال نصر لعبد الحكم:
« أما ترى ما صنع سفهاء قومك؟ » فقال عبد الحكم:
« بل سفهاء قومك، طالت ولايتك وصيّرت الولاية لقومك دون ربيعة واليمن فبطروا، وفي ربيعة واليمن حلماء وسفهاء فغلب سفهاؤهم حلماءهم. » فقال عبّاد:
« أتستقبل الأمير بهذا الكلام؟ » فقال:
« دعه فقد صدق. » فقال أبو جعفر عيسى لنصر:
« أيّها الأمير حسبك من الولاية، فإنّه قد أظلّ أمر عظيم سيقوم رجل مجهول النسب يظهر السواد ويدعوا إلى دولة لا محالة ستكون فيغلب على الأمر وأنتم تنظرون وتضطربون. » فقال نصر:
« ما أشبه أن يكون ما تقول لقلّة الوفاء وسوء ذات البين. وجّهت إلى الحارث وهو بأرض الترك فعرضت عليه الولاية والأموال فأبى إلّا الشغب ثم ظاهر عليّ. » فقال أبو جعفر عيسى:
« إنّ الحارث مقتول مصلوب، وما الكرمانيّ من ذلك ببعيد. » ولمّا خرج نصر من مرو وغلب الكرمانيّ عليها.
قال الحارث:
« إنّما أريد كتاب الله. » فقال مقاتل بن حيّان:
« في كتاب الله هدم الدور وإنهاب الأموال. » فبلغ الكرمانيّ فحبسه في خيمة في العسكر فكلّمه معمر بن مقاتل بن حيّان أو معمر بن حيّان أخوه فخلّاه. وأتى الكرمانيّ المسجد ووقف الحارث فخطب الكرمانيّ الناس وآمنهم.
وعسكر الكرمانيّ في مصلّى أسد. ومضى الحارث إلى باب دروازق سرخس فبعث إلى الحارث فأتاه فأنكر الحارث هدم الدور والإنهاب، فهمّ به الكرمانيّ ثم كفّ عنه.
وخرج بشر بن جرموز الضبي بخرقان فدعا إلى كتاب الله والسنّة وقال للحارث:
« إنّما قاتلت معك طلب العدل، فأمّا إذ كنت مع الكرمانيّ فقد علمت أنّك إنّما تقاتل ليقال: غلب الحارث. وهذه عصبيّة وليست مقاتلا معك. »
واعتزل في خمسة آلاف وقال:
« نحن الفئة العادلة ندعو إلى الحق ولا نقاتل إلّا من قاتلنا. » وأتى الحارث مسجد عياض فأرسل إلى الكرمانيّ يدعوه إلى أن يكون الأمر شورى. فأبى الكرمانيّ. وكتب أصحاب الحارث إلى الكرمانيّ وأصحابه:
« نوصيكم بتقوى الله وطاعته وتحريم ما حرّم الله عز وجل من دمائكم أمّا بعد، فإنّ اجتماعنا كان إلى الحارث ابتغاء الوسيلة إلى الله، ونصيحة لله في عباده، فعرّضنا أنفسنا للحرب، ودماءنا للسفك، وأموالنا للتلف، وصغر ذلك كلّه عندنا في جنب ما نرجو من ثواب الله ونحن وأنتم إخوان في الدين وأنصار على العدوّ، فاتّقوا الله وارجعوا إلى الحقّ فإنّا لا نريد سفك الدماء بغير حقّها. » وأقاموا أيّاما. فأتى الحارث بن سريج ثلمة في الحائط فوسّعها عند دور آل هشام بن أبي الهيثم فتفرّق عن الحارث أهل البصائر وقال: « غدرت. » وأقام معه نفر ودخل الكرمانيّ من باب سرخس فحاذى بالحارث ومرّ به المنخّل الأزدي فقتله السّميدع ونادى:
« يا لثارات لقيط. » واقتتلوا وعبّى الكرمانيّ ميمنته وميسرته واشتدّ الأمر بينهما فانهزم أصحاب الحارث وقتلوا ما بين الثلمة وعسكر الحارث وكان الحارث على بغل فنزل عنه وركب فرسا فحرن وانهزم. صحابه فبقى في مائة فقتل وقتل أخوه سوادة وجماعة معه نحو مائة.
وكفّ الكرمانيّ وكان قد قتل من أصحاب الكرمانيّ أيضا مائة. وصلب الحارث عند باب مدينة مرو بغير رأس وكان قتله بعد خروج نصر من مرو بثلاثين يوما. قتل يوم الأحد لستّ بقين من رجب.
وأصاب الكرمانيّ صفائح ذهب للحارث، فأخذها وأخذ أموال من خرج مع نصر، واصطفى متاع عاصم بن عمير، فقال إبراهيم:
« بأيّ شيء تستحلّ ماله؟ » فقال صالح من آل الوضّاح:
« اسقني دمه. » فحال بينه وبينه مقاتل بن سليمان وأتى به منزله.
وكان الحارث قبل مكاشفته الكرمانيّ ندم على اتباعه إيّاه. فلمّا همّ الكرمانيّ بقتال بشر بن جرموز، وكان عسكره خارجا عن المدينة، قال له الحارث:
« لا تعجل إلى قتالهم، فإني أردّهم إليك. » فخرج من العسكر في عشرة فوارس حتى أتى عسكر بشر وهو في خمسة آلاف. فأقام معهم وقال:
« ما كنت لأقاتلكم مع اليمانية. » وجعل المضريّون يتسلّلون من عسكر الكرمانيّ إلى الحارث حتى لم يبق مع الكرمانيّ مضريّ إلّا سلمة بن أبي عبد الله مولى بنى سليم فإنّه قال:
« لا أتبع الحارث أبدا فإني لم أره إلّا غادرا والمهلّب بن إياس. » وقال:
« لا أتبعه فإني لم أره قطّ إلّا في خيل تطرد. » فقاتلهم الكرمانيّ مرارا يقتتلون ثم يرجعون إلى خنادقهم فمرّة تكون لهولاء ومرّة لهولاء.
برذون الحارث

فالتقوا يوما وقد شرب مرثد بن عبد الله المجاشعي فخرج سكران على برذون للحارث فطعن فصرع وحماه فوارس تميم حتى تخلّص وعار البرذون.
فلمّا رجعوا لامه الحارث وقال:
« كدت تقتل نفسك. » فقال للحارث:
« إنّما تقول هذا لمكان برذونك، امرأته طالق إن لم آتك بأفره برذون في عسكرهم. » فالتقوا من غد فقال مرثد:
« أيّ برذون في عسكرهم أفره؟ » قال:
برذون عبد الله بن ديسم الغنوي. » وأشاروا له إلى موقفه فقاتل حتى وصل إليه فلمّا غشيه رمى ابن ديسم بنفسه عن برذونه وعلّق مرثد عنان البرذون في رمحه وقاده حتى أتى به الحارث وقال:
« هذا مكان برذونك. » فلقى مخلّد بن الحسن مرثدا فقال له يمازحه:
« ما أهيأ برذون بن ديسم تحتك! » فنزل عنه فقال:
« خذه. » قال:
« أردت أن تفضحني، أخذته منّا في الحرب وآخذه منك في السلم. »