فقال يحيى بن نعيم بن هبيرة الشيبانى:
« اختاروا إمّا أن تهلكوا أنتم قبل مضر أو تهلك مضر قبلكم. » قالوا:
« وكيف ذلك؟ » قال:
« إنّ هذا الرجل إنّما ظهر منذ شهر وقد صار في عسكره مثل عسكركم. » قالوا: « فما الرأي؟ » قال:
« صالحوا نصرا فإنّكم إن صالحتموه قاتلوا نصرا وتركوكم، لأنّ الأمر في مضر، وإن لم تصالحوا نصرا صالحوه وقاتلوكم ثم عادوا عليكم. » قالوا: « فما الرأي؟ » قال:
« قدّموهم قبلكم ولو بساعة. فتقرّ أعينكم بقتلهم. » فأرسل شيبان إلى نصر يدعوه إلى الموادعة فأجابه. وأرسل إليه سلم بن أحوز، فكتب بينهم كتابا وأتى به شيبان وعن يمينه ابن الكرمانيّ وعن يساره يحيى بن نعيم. فقال سلم لابن الكرمانيّ:
« يا أعور، ما أخلقك أن تكون الأعور الذي بلغنا أن هلاك مضر يكون على يده. » ثم توادعوا سنة، وكتبوا بينهم كتابا، فبلغ أبا مسلم، فأرسل إلى شيبان:
« إنّا نوادعك أشهرا. » فتوادعا ثلاثة أشهر. فقال ابن الكرماني:
« فانّى والله ما صالحت نصرا وإنّما صالحه شيبان وأنا لذلك كاره وأنا موتور ولا أدع قتاله. » فعاوده القتال وأبي شيبان أن يعينه وقال:
« لا يحلّ الغدر. » فأرسل ابن الكرماني إلى أبي مسلم يستنصره على نصر بن سيّار، فأقبل أبو مسلم حتى نزل الماخوان. فأرسل إلى ابن الكرماني شبل بن طهمان يعرّفه أنّى قد أقبلت وأنّى معك على نصر. فقال ابن الكرماني لشبل:
« إني أحبّ أن يلقاني أبو مسلم. » فأبلغه ذلك شبل، فأقام أبو مسلم أربعة عشر يوما، ثم سار إلى ابن الكرماني وخلّف عسكره بالماخوان، فتلقّاه عثمان الكرماني في خيل وسار معه حتى دخل العسكر وأتى حجرة عليّ، فوقف حتى أذن له. فدخل وسلّم على عليّ بالإمرة وقد اتّخذ عليّ له منزلا في قصر لمخلد بن الحسن الأزدي فأقام يومين ثم انصرف إلى عسكره بالماخوان وكان احتفر بها خندقا وجعل له بابين ووكلّ بكل باب ثقة واستعمل على الشّرط أبا نصر مالك بن الهيثم، وعلى الحرس أبا إسحاق خالد بن عثمان، وعلى ديوان الجند كامل بن مظفّر ويكنى أبا صالح، وعلى الرسائل أسلم بن صبيح، وعلى القضاء القاسم بن مجاشع النقيب.
فكان القاسم بن مجاشع يصلّى بأبي مسلم في الخندق الصلوات ويقصّ القصص بعد العصر. فيذكر فضل بنى هاشم ومعايب بني أمية. ولم يزل أبو مسلم كرجل من الشيعة في الهيئة حتى أتاه عبد الله بن بسّام بالأروقة والفساطيط وبآلة المطابخ والمعالف للدوابّ وحياض الأدم للماء.
فاستعمل أبو مسلم داود بن كرّاز على العبيد وأفردهم عن عسكره واحتفر لهم خندقا ثم أمر أبو مسلم كامل بن مظفّر أن يعرض الجند في الخندق بأسمائهم وأسماء آباءهم وحلاهم وأن ينسبهم إلى القرى ويجعل ذلك في دفتر. ففعل، وبلغت عدّتهم سبعة آلاف رجل. فأعطى كل رجل ثلاثة دراهم. ثم أعطاهم بعد ذلك أربعة أربعة على يدي أبي صالح كامل
القبائل يضعون الحروب ويتفقون على محاربة أبي مسلم

ثم إنّ القبائل من مضر وربيعة وقحطان تواعدوا على وضع الحروب وعلى أن تجتمع كلمتهم على محاربة أبي مسلم. فإذا نفوه عن مرو نظروا في أمر أنفسهم وعلى ما يجتمعون عليه وكتبوا على أنفسهم بذلك كتابا وثيقا. وبلغ أبا مسلم الخبر فأفظعه ذلك وأعظمه. فنظر أبو مسلم في أمره، فإذا ماخوان سافلة الماء. فتخرّف أن يقطع نصر بن سيّار عنه الماء. فتحوّل إلى آلين قرية أبي منصور طلحة بن زريق النقيب، وخندق بآلين خندقا وجعل شربه وشرب أهل آلين من نهر يدعى الخرقان لا يمكن قطعه عنهم.
وخرج نصر بن سيّار إليه فعسكر على نهر عياض وفرّق قوادّه حول أبي مسلم ليواقعه. فكان أحد قوادّه أبو الذيّال فأنزل جنده بطوسان وكان عامّة أهلها مع أبي مسلم في الخندق فآذوا أهل طوسان وعسفوهم وذبحوا بقرهم ودجاجهم وحمامهم، وكلّفوهم الطعام والعلف. فشكت الشيعة ذلك إلى أبي مسلم، فوجّه معهم خيلا، فلقوا أبا الذيّال فهزموه وأصحابه وأسروا منهم جماعة، فكساهم أبو مسلم وداوى جرحاهم وخلّى سبيلهم.
في هذه السنة قتل جديع بن عليّ الكرماني وصلب.
ذكر مقتل جديع الكرماني وصلبه

قد ذكرنا مقتل الحارث بن سريج وأنّ الكرماني هو الذي قتله. ولمّا قتله خلصت له مرو وتنحّى نصر بن سيّار عنها إلى أبر شهر وقوى أمر الكرماني فوجّه نصر إليه سلم بن أحوز، فسار في رابطة نصر وفرسانه حتى لقي الكرماني، فوجد يحيى بن نعيم واقفا في ألف رجل من ربيعة ومحمّد بين المثنّى في سبعمائة من فرسان الأزد وجماعة أخرى في ألف من فتيانهم والصغرى في ألف من أبناء اليمن. فلمّا تواقفوا قال سلم بن أحوز لمحمّد بن المثنّى:
« يا محمّد، مر هذا الملّاح بالخروج إلينا. » فقال محمد لسلم:
« يا بن الفاعلة، لأبي عليّ تقول هذا؟ » ودلف القوم بعضهم إلى بعض، فاجتلدوا بالسيوف، وانهزم سلم بن أحوز، وقتل من أصحابه خلق وقدم أصحاب نصر عليه فلو لا. فقال له عقيل:
« يا نصر، شأمت العرب. فأمّا إذ صنعت ما صنعت فشمّر عن ساق وجدّ. » فوجّه عصمة بن عبد الله فوقف سلم بن أحوز فنادى:
« يا محمّد، لتعلمنّ أنّ السمك لا يغلب اللخم. » فقال محمد:
« لتعلمن، فقف لنا إذا. » وأمر محمّد الصغرى فخرج إليه في أهل اليمن. فاقتتلوا قتالا شديدا وانهزم عصمة حتى أتى نصرا وقد قتل من أصحابه أربعمائة. ثم أرسل نصر مالك بن عمرو التميم فأقبل في أصحابه فنادى:
« يا ابن المثنّى، ابرز لي إن كنت رجلا. »
فبرز له فضربه التميمي على حبل عاتقه فلم يصنع شيئا وضربه محمّد بن المثنّى بعمود فشدخ رأسه. والتحم القتال فاقتتلوا قتالا شديدا وانهزم أصحاب نصر وقد قتل منهم سبعمائة رجل، وقد قتل من أصحاب الكرمانيّ ثلاثمائة رجل. فلم يزل الشرّ بينهم حتى خرجوا جميعا إلى الخندقين فاقتتلوا قتالا شديدا.
حيلة لأبي مسلم تمت له

فلمّا علم أبو مسلم أنّ كلا الفريقين قد أثخن صاحبه وأنّه لا مدد لهم جعل يكتب الكتاب إلى شيبان، ثم يقول للرسول:
« انطلق، فاجعل طريقك على المضريّة، فانّهم سيعرضون لك ويأخذون كتبك. » فكانوا يأخذونها فيجدون فيها: إني رأيت أهل اليمن لا وفاء لهم ولا خير فيهم فلا تثقنّ بهم ولا تطمئنّ إليهم فإني أرجوا أن يريك الله في اليمانية ما تحبّ، ولئن بقيت لا أدع لهم شعرا ولا ظفرا. » ويرسل رسولا آخر في طريق آخر فيه ذكر المضريّة بمثل ذلك حتى صار هوى الفريقين جميعا معه. وجعل يكتب إلى نصر بن سيّار وإلى الكرماني:
« إنّ الإمام قد وصّانى بكم، ولست أعدوا رأيه فيكم. » وكتب إلى الكور بإظهار الأمر، فكان أوّل من سوّد أسيد بن عبد الله الخزاعي بنسّا ونادى:
« يا محمد، يا منصور. » وسوّد معه مقاتل بن الحكم وغيره، وسوّد أهل أبيورد وأهل مرو الرود.
وأقبل أبو مسلم حتى نزل بين خندق نصر بن سيّار وخندق جديع الكرماني وهابه الفريقان وكثر أصحابه. وكتب نصر بن سيّار إلى مروان يعلمه حال أبي مسلم، وكثرة من معه، وإظهاره أمره، وأنّه يدعو إلى إبراهيم بن محمّد.
وكتب بأبيات شعر:
أرى خلل الرماد وميض جمر ** ويوشك أن يكون له ضرام
فإنّ النار بالعودين تذكى ** وإنّ الحرب أوّلها الكلام
فقلت من التعجّب ليت شعري ** أأيقاظ أميّة أم نيام
فإن يك قومنا أمسوا رقودا ** فقل هبّوا، فقد حان القيام
وكتب إليه مروان:
« الشاهد يرى ما لا يرى الغائب فأحسم الثؤلول قبلك. » فقال نصر:
« أمّا صاحبكم فقد أعلمكم أن لا نصر عنده. » فكتب إلى يزيد بن عمر بن هبيرة يستمدّه وكتب إليه:
أبلغ يزيد وخير القول أصدقه ** وقد تبيّنت أن لا خير في الكذب
إنّ خراسان أرض قد أصبت بها ** بيضا لو أفرخ قد حدّثت بالعجب
فراخ عامين إلّا أنّها كثرت ** لمّا يطرن وقد سربلن بالزّغب
وإن يطرن ولم يحتل لهنّ بها ** يلهبن نيران حرب أيّما لهب