ذكر اتفاق عجيب وقع على أصحاب زياد حتى انهزموا وقتلهم أبو داود

لمّا اجتمع أبو داود وزياد وأصحابهما واصطفّوا للقتال أمن أبو سعيد القرشي أن يؤتى زياد وأصحابه من خلفهم، فرجع وكانت أعلام أبي سعيد وراياته سودا. فلمّا خرج عليهم من سك الفود من وراءهم نظروا إلى الرايات السود، فظنّوها كمينا لأبي داود، وكان القتال قد نشب بين الفريقين، فانهزم زياد وأصحابه واتبعهم أبو داود، فوقع عامّه أصحاب زياد في نهر السّرخيان، وقتل عامّة رجالهم المتخلّفين، ونزل أبو داود عسكرهم، وحوى ما فيه ولم يتبعهم.
وأقام أبو داود يومه ذلك ومن الغد، ولم يدخل بلخ واستصفى أموال من قتل بالسّرختان ومن هرب من العرب وغيرهم واستقامت بلخ لأبي داود.
ثم كتب إليه أبو مسلم يأمره بالقدوم عليه، ووجّه النضر بن صبيح المرّيّ على بلخ، وقدم أبو داود، فاجتمع رأى أبي داود ورأى أبي مسلم على أن يفرّق بين عليّ وعثمان ابني الكرماني. فبعث أبو مسلم عثمان عاملا على بلخ فلمّا توجّه إليها استخلف الفرافصة بن ظهير على مدينة بلخ. وأقبلت المضريّة من الترمذ عليهم مسلم بن عبد الرحمن الباهلي. فالتقوا مع أصحاب عثمان بن جديع، فهزموا أصحاب عثمان وغلب على بلخ المضريّة، وأخرجوا الفرافصة، وبلغ الخبر عثمان بن جديع والنضر بن صبيح وهما بمرو الرود فأقبلا نحوهم. وبلغ أصحاب زياد بن عبد الرحمن فهربوا من تحت ليلتهم، فقصّر النضر في طلبهم رجاء أن يفوتوا، وجدّ أصحاب عثمان حتى لقوهم.
فاقتتلوا قتالا شديدا، وانهزم أصحاب عثمان وأكثر فيهم القتل ومضت المضريّة إلى أصحابهم، ورجع أبو داود من مرو إلى بلخ، وسار أبو مسلم ومعه عليّ بن جديع إلى نيسابور، واتّفق رأى أبي مسلم ورأى أبي داود على أن يقتل أبو مسلم عليّا ويقتل أبو داود عثمان في يوم واحد. فلمّا قدم أبو داود بلخ، بعث عثمان إلى الختّل فيمن معه من أهل مرو ويمانية أهل بلخ وربعيّهم. فلمّا خرج من بلخ خرج أبو داود فاتبع الأثر فلحقه على شاطئ نهر بوخش من أرض الختّل فوثب أبو داود على عثمان وأصحابه، فحبسهم، ثم ضرب أعناقهم جميعا.
وقتل أبو مسلم في ذلك اليوم عليّ بن جديع، وقد كان أبو مسلم أمره أن يسمّى له خاصّته ليولّيهم ويأمر لهم بجوائز، فسمّاهم له فقتلهم جميعا.
قدوم قحطبة بن شبيب على أبي مسلم

وفي هذه السنة قدم قحطبة بن شبيب على أبي مسلم خراسان منصرفا من عند إبراهيم بن محمّد، ومعه لواء عقده له إبراهيم. فوجّهه أبو مسلم على مقدّمته، وضمّ إليه الجيوش، وجعل إليه العزل والولاية، وكتب إلى الجنود بالسمع له والطاعة.
فتوجّه قحطبة إلى نيسابور للقاء نصر. وكان أصحاب شيبان الحروريّ بعد قتله لحقوا بنصر وهو بنيسابور، وتوجّه قحطبة في قوّاده، فأخذ جهور بن مرّار وهو أحد القوّاد على ناحية بيورد، وأخذ القاسم بن مجاشع وهو أحد القوّاد على ناحية سرخس، وتوجّه قحطبة نحو طوس ومعه وجوه القوّاد كأبي عون وخالد بن برمك وخازم بن خزيمة وعثمان بن نهيك وأمثالهم. فلقى من بطوس، فانهزموا، ودفعوا إلى مضيق، فكان من مات منهم في الزحام أكثر ممّن قتل وبلغ عدّة القتلى يومئذ بضعة عشر ألفا.
وتوجّه قحطبة إلى السودقان وهو معسكر تميم بن نصر والنابى. وكان قحطبة قد وجّه على مقدّمته أسيد بن عبد الله الخزاعي في ثلاثة آلاف رجل فسار إليه وتعبّأ تميم والنابى لقتاله. وكتب أسيد إلى قحطبة يعلمه ما أجمعوا عليه من قتاله وأنّه إن لم يعجل القدوم عليه حاكمهم إلى الله، وأعلمه أنّهما في ثلاثين ألفا من صناديد أهل خراسان وفرسانهم. فوجّه قحطبة مقاتل بن حكيم العكيّ في ألف وخالد بن برمك في ألف. فقدما عليه وقوى أسيد بهما، وبلغ ذلك تميما النابى فكسرهما.
ثم قدم عليهم قحطبة بمن معه وعبّأ ميمنته وميسرته ثم زحف إليهم ودعاهم إلى كتاب الله تعالى وسنّة نبيه وإلى الرضا من آل محمّد ، فلم يجيبوه. فأمر الميمنة والميسرة أن يحملوا. فاقتتلوا قتالا شديدا، وقتل تميم بن نصر في المعركة، وقتل منهم مقتلة عظيمة، واستبيح عسكرهم وانهزم النابى فتحصّن في المدينة وأحاطت به الجنود، فنقبوا المدينة ودخلوها، فقتلوا النابى ومن كان معه، وهرب عاصم بن عمير وسالم بن راوية إلى نصر بن سيّار بنيسابور، فأخبراه بقتل تميم والنابى ومن كان معهما.
فصيّر قحطبة قبض ما في العسكر المهزوم إلى خالد بن برمك. وارتحل نصر هاربا في أهل أبرشهر حتى نزل قومس وتفرّق عنه أصحابه فسار إلى جرجان، وبها نباتة بن حنظلة من قبل يزيد بن عمر بن هبيرة.
ذكر مقتل نباتة بن حنظلة

كان يزيد بن عمر بن هبيرة بعث نباتة بن حنظلة الكلابي إلى نصر مددا له في خيل وعدّة وعتاد. فسار إلى إصبهان، ثم سار إلى الريّ، ومضى إلى جرجان، ولم ينضمّ إلى نصر. وخندق نباتة، وكان إذا وقع الخندق في دار قوم رشوه فأخّره حتى صار خندقه نحوا من فرسخ.
وأقبل قحطبة إلى جرجان في سنة ثلاثين ومائة وذلك في ذي القعدة منها. وقد تعبّأ وجعل على مقدّمته الحسن بن قحطبة. وقال قحطبة:
« يا أهل خراسان، استبصروا فإنّكم تسيرون إلى بقية قوم حرّقوا بيت الله. » وأقبل الحسن بن قحطبة حتى نزل على تخوم خراسان، وأنفذ قوما إلى مسلحة نباتة وعليها رجل يقال له: ذويب، فبيّتوهم وقتلوا ذويبا وسبعين من أصحابه. ثم رجعوا إلى عسكر الحسن. وقدم قحطبة فنزل بإزاء نباتة، وكان أهل الشام في عدّة لم ير الناس مثلها. فلمّا رآهم أهل خراسان هابوهم حتى تكلّموا بذلك، وبلغ ذلك قحطبة فقام خطيبا.
خطبة لقحطبة قوت قلوب أصحابه

قام فقال:
« يا أهل خراسان، إنّ هذه البلاد كانت لآباءكم الأوّلين، وكانوا ينصرون على أعداءهم، لعدلهم وحسن سيرتهم. فلمّا بدّلوا وظلموا سخط الله عليهم، فانتزع سلطانهم وسلّط عليهم أذلّ أمّة كانت في الأرض عندهم، فغلبوهم على بلادهم واستنكحوا نساءهم، واسترقّوا أولادهم، وقتلوا آباءهم. فكانوا على ذلك يحكمون بالعدل ويوفون بالعهد وينصرون المظلوم. ثم بدّلوا وغيّروا وجاروا في الحكم وأخافوا أهل البرّ والدين من عترة رسول الله . فسلّطكم الله عليهم لينتقم منهم بكم ليكونوا أشدّ عقوبة لأنّكم طلبتموهم بالثأر. وقد عهد إليّ الإمام أنّكم تلقونهم في مثل هذه العدّة فينصركم الله عليهم فتهزمونهم وتقتلونهم. » وكان قرئ على قحطبة كتاب من أبي مسلم:
« أمّا بعد فناهض عدوّك بجدّ، فإنّ الله ناصرك. فإذا ظهرت عليهم فأثخن في القتل. » فالتقوا في متسهل ذي الحجّة واقتتلوا وصبر بعضهم لبعض. فقتل نباتة وانهزم أهل الشام فقتل منهم أكثر من عشرة آلاف وبعث إلى أبي مسلم برأس نباتة وابنه حيّة.
وكان من عجيب ما شوهد في تلك الحرب أمر سالم بن راوية التميمي، وكان ممّن هرب من أبي مسلم وخرج مع نصر، ثم صار مع نباتة فقاتل قحطبة بجرجان في هذه الوقعة، فلمّا انهزم الناس بقي فثبت وقاتل وحده، فحمل عليه عبد الله الطائيّ وهو من الفرسان، فضربه سالم بن راوية على وجهه فأندر عينه. ثم قاتلهم حتى اضطرّ إلى مسجد، فدخله ودخلوا عليه، فكان لا يشدّ في ناحية إلّا كشفهم. فعطش فجعل ينادى « شربة، فو الله لأنقعنّ لهم شرا يومي هذا. » فلم يقدر عليه أحد، حتى حرقوا عليه سقف المسجد، ورموه بالحجارة، حتى قتلوه، وجاءوا برأسه إلى قحطبة، وليس في وجهه ولا رأسه مصحّ.
فقال قحطبة والناس:
« ما رأينا مثل هذا قطّ. »
وقعة قديد

وفي هذه السنة كانت الوقعة بقديد بين أبي حمزة الخارجي وأهل المدينة.
ذكر الخبر عن ذلك

كنّا حكينا أنّ عبد الواحد بن سليمان رجع إلى المدينة، وضرب على البعوث، واستعمل عبد العزيز بن عمرو بن عثمان على الناس، فخرجوا حتى نزلوا قديد وكانت الحياض هناك وهم قوم مغترّون ليسوا بأصحاب حرب فلم يرعهم إلّا القوم قد خرجوا عليهم فقتلوهم، وكانت المقتلة على قريش، كانوا أكثر الناس، وبهم كانت الشوكة.
ودخل أبو حمزة مدينة رسول الله ، وهرب عبد الواحد إلى الشام، فأحسن السيرة وخطب فذكر جور بنى مروان وآل أميّة، واستمال الناس حتى سمعوه يقول في خطبته:
« يا أهل المدينة، من زنا فهو كافر ومن سرق فهو كافر. » ثم إنّ مروان انتخب من عسكره أربعة آلاف واستعمل عليهم ابن عطيّة وأمره بالجدّ في المسير وأعطى كلّ رجل منهم مائة دينار، وفرسا عربيّا وبغلا لثقله، وأمرهم أن يقاتلهم فإذا ظفر مضى حتى يبلغ اليمن، ويقاتل عبد الله بن يحيى، ومن تبعه. فخرج حتى نزل بالمعلّى. ثم سار إلى وادي القرى فلقيهم حمزة فقال حمزة:
« لا تقاتلوهم حتى تختبروهم. » قال: فصاحوا بهم:
« ما تقولون في القرآن والعمل به؟ » فصاح ابن عطيّة:
« وما عليك يا فاجر؟ » قالوا: « نحن مسلمون ولا نقاتلكم إلّا ببيان، فأخبرونا عن القرآن وفرائضه. » فصاحوا: « نضعه في بيوتنا ثم نقاتلكم. » ثم سألوهم عن أشياء أجابوهم عنها بقبائح، إلى أن قالوا:
« فما تقولون في مال اليتيم؟ » فصاح صائح:
« نأكل ماله ونفجر بأمّه. » فحينئذ قاتلوهم حتى أمسوا. ثم صاحوا:
« ويحك يا ابن عطيّة، إنّ الله جعل الليل سكنا فاسكن نسكن. » فأبى. وقال لأصحابه:
« هذا وهن منهم فجدّوا. »
ففعلوا حتى قتلهم، وانهزم من انهزم منهم. فلمّا رجعوا إلى المدينة منهزمين تلقّاهم أهلها فقتلوهم.