فلمّا رأى ذلك أبو مسلم مكر بهم، فأرسل إلى الحسن بن قحطبة، وكان على ميمنته، أن:
« أعر ميمنتك وضمّ أكثرها إلى الميسرة، وليكن في الميمنة حماة أصحابك وأشدّاؤهم. » فلمّا رأى ذلك أهل الشام أعروا ميسرتهم وانضمّوا إلى ميمنتهم بازاء ميسرة أبي مسلم.
ثم أرسل أبو مسلم إلى الحسن أن:
« مر أهل القلب فليحملوا مع من بقي في الميمنة على ميسرة أهل الشام. » قال: فحملوا عليهم فحطّموهم. وجال أهل القلب والميمنة وركبهم أهل خراسان فكانت الهزيمة.
فحكى ابن سراقة الأزدي قال: كنت مع عبد الله بن عليّ، فقال لي:
« يا سراقة ما ترى؟ » قلت: « أرى أن تصير وتقاتل فإنّ الفرار قبيح بمثلك حتى تقتل وقد عبته على مروان. » قلت: « قبّح الله مروان، جزع من الموت ففرّ. »
فقال: « بل آتى العراق. » قلت: « فإني معك. » فانهزم مع الناس وتركوا عسكرهم فاحتواه أبو مسلم، وكتب إلى أبي جعفر بالفتح. فأرسل أبو جعفر أبا الخصيب مولاه يحصى ما أصابوا في عسكر عبد الله بن عليّ، فغضب من ذلك أبو مسلم، ولم يظهر غضبه.
فأمّا عبد الله بن عليّ فإنّه أتى سليمان بن عليّ بالبصرة، وأمّا عبد الصمد فقدم الكوفة، فاستأمن له عيسى بن موسى، فآمنه أبو جعفر وأمر أبو مسلم الناس بالكفّ، فلم يقتل أحدا بعد الهزيمة، وبقي عبد الله بن عليّ متواريا عند سليمان زمانا.
وفي هذه السنة قتل أبو مسلم
حكى مسلم بن المغيرة: أنّه كان مع الحسن بن قحطبة بأرمينية، فلمّا وجّه أبو مسلم إلى الشام، كتب أبو جعفر إلى الحسن أن يوافيه ويسير معه. فقدمنا على أبي مسلم وهو بالموصل، فأقام أيّاما، فلمّا أراد أن يسير استأذنته في المصير إلى العراق وقلت:
« أنتم تسيرون إلى القتال، وليس بك إليّ حاجة. » قال: « نعم، لكن أعلمني إذا أردت الخروج. » قلت: « نعم. » فتهيّأت، فلمّا فرغت أعلمته وقلت:
« أتيتك مودّعا. » قال: « قف بالباب حتى أخرج إليك. »
فخرجت فوقفت، فخرج وقال:
« أريد أن ألقى إليك شيئا لتبلغه أبا أيّوب، ولولا ثقتي بك لم أخبرك، فأبلغ أبا أيّوب أنّى قد ارتبت بأبي مسلم منذ قدمت عليه. إنّه يأتيه الكتاب من أمير المؤمنين فيقرأه ثم يلوى شدقه ويرمى بالكتاب إلى أبي نصر مالك بن الهيثم فيقرأه ثم يضحكان ويستهزئان به. » قلت: « نعم. » ومضيت عنه، فلمّا لقيت أبا أيّوب وأنا أرى أنّى قد أتيته بشيء أخبرته، ضحك وقال:
« نحن لأبي مسلم أشدّ تهمة منّا لعبد الله بن عليّ، إلّا أنّا نرجو واحدة: نعلم أنّ أهل خراسان لا يحبّون عبد الله وقد قتل منهم من قتل. »
ذكر مقتل أبي مسلم صاحب الدولة وسبب ذلك
لمّا ظفر أبو مسلم بعسكر عبد الله بن عليّ، بعث أبو جعفر يقطين بن موسى وأمره بإحصاء ما في العسكر، فلمّا قدم عليه، وكان يسمّيه: يك دين، قال له أبو مسلم:
« يا يك دين، أمين على الدماء خائن في الأموال. » وشتم أبا جعفر، فأبلغه يقطين ذلك.
وأقبل أبو مسلم من الجزيرة مجمعا على الخلاف، وخرج من وجهه معارضا يريد خراسان. وخرج أبو جعفر من الأنبار إلى المدائن، وكتب إلى أبي مسلم في المصير إليه.
فكتب أبو مسلم وهو على الرواح إلى طريق حلوان:
« إنّه لم يبق لأمير المؤمنين - أكرمه الله عدوّ إلّا مكّنه الله منه. وقد كنّا نروى عن ملوك آل ساسان أنّ أخوف ما يكون الوزراء إذا سكنت الدهماء، فنحن نافرون من قربك حريصون على الوفاء بعدك ما وفيت، حريّون بالسمع والطاعة لك، غير أنّها من بعيد حيث تقارنها السلامة، فإنّ أرضاك ذلك فإنّا كأخسّ عبيدك، وإن أبيت إلّا أن تعطى نفسك إرادتها، نقضت ما أبرمت من عهدك ضنّا بنفسي. » فلمّا وصل الكتاب إلى المنصور، كتب إلى أبي مسلم:
« قد فهمت كتابك، وليست صفتك صفة أولئك الوزراء الغششة ملوكهم الذين يتمنّون اضطراب حبل الدولة لكثرة جرائمهم، فإنّما راحتهم في انتشار نظام الجماعة. فلم سوّيت نفسك بهم وأنت في طاعتك ومناصحتك واضطلاعك بما حمّلت من أعباء هذا الأمر على ما أنت به، وليس مع الشريطة التي أوحشت منك سمع ولا طاعة. وقد حمّل إليك أمير المؤمنين عيسى بن موسى رسالة لتسكن إليها إن أصغيت، وأسأل الله أن يحول بين الشيطان ونزعاته وبينك، فإنّه لم يجد بابا يفسد به نيّتك أوكد عنده وأقرب من ظنّه من الباب الذي فتحه عليك. » وأمر أبو جعفر عيسى بن موسى ومن حضره:
« اكتبوا إليه تعظمون أمره وتشكرون ما كان منه وتسألونه أن يتمّ ما كان منه وعليه من الطاعة وتحذّرونه عاقبة الغدر وتأمرونه بالرجوع إلى أمير المؤمنين وأن يلتمس رضاه. » ودعا أبا حميد ثم قال له:
« كلّم أبا مسلم بالين ما تكلّم به أحدا، ومنّه، وأعلمه أنّى رافعه وصانع به ما لم يصنعه أحد بأحد إن هو راجع ما أحبّ فإن أبي أن يرجع فقل له: يقول لك أمير المؤمنين نفيت من العبّاس، وأنا بريء من محمّد إن مضيت مشاقا ولم تأتنى إن وكلت أمرك إلى أحد سواي، وإن لم أل طلبك وقتالك إلّا بنفسي، ولو خضت البحر لخضته، ولو اقتحمت النار لاقتحمتها، حتى أقتلك أو أموت قبل ذلك. ولا تقولّن هذا الكلام حتى تأيس من رجوعه، ولا تطمع منه في خير. » فسار أبو حميد في ناس من أصحابه ممّن يثق بهم حتى دخل على أبي مسلم، فدفع إليه الكتاب، ثم قال:
« إنّ الناس يبلّغونك عن أمير المؤمنين ما لم يقله، وخلاف ما عليه رأيه فيك، حسدا وبغيا. يريدون إزالة هذه النعمة وتغييرها فلا تفسد ما كان منك.
وكلّمه بأشباه هذا وقال له:
« يا أبا مسلم، إنّك لم تزل أمين آل محمّد، يعرفك بذلك الناس وما ذخر الله لك من الأجر عنده أعظم ممّا أنت فيه من دنياك، فلا تحبط أجرك ولا يستهوينّك الشيطان. » قال له أبو مسلم:
« متى كنت تكلّمنى بهذا الكلام. » وأقبل على أبي نصر مالك بن الهيثم. فقال:
« يا مالك، ألا تسمع؟ ».
ذكر آراء أشير بها على أبي مسلم فخالفها
قال: « لا تسمع قوله ولا يهولنّك هذا منه فلعمري لقد صدقت ما هذا بكلامه فامض لأمرك ولا ترجع، فو الله لقد وقع في نفسه منك شيء لا يأمنك معه أبدا. » فقال للرسل: « قوموا. » فنهضوا. فأرسل أبو مسلم إلى نيزك وقال:
« يا نيزك، إني والله ما رأيت طويلا أعقل منك، فما ترى؟ فقد جاءت هذه الكتب وقد قال القوم ما قالوا. » قال:
« لا أرى أن تأتيه وأرى أن تأتى الريّ فتقيم بها فتصير ما بين خراسان والريّ لك وهم جندك لا يخالفك أحد، فإن استقام لك استقمت وإن أبي كنت في جندك، وكانت خراسان من وراءك، فرأيت رأيك. » فدعا أبا حميد فقال:
« ارجع إلى صاحبك، فليس من رأيي أن آتيه. » قال: « قد اعتزمت على خلافه. »
قال: « نعم. » قال: « لا تفعل. » قال: « ما أريد أن ألقاه. » فلمّا آيسه من الرجوع قال له ما أمره به أبو جعفر، فوجم طويلا ثم قال:
« قم. » فكسره ذلك القول ورعّبه.
وكان أبو جعفر قد كتب إلى أبي داود وهو خليفة أبي مسلم على خراسان حين أتّهم أبا مسلم:
« إنّ لك إمرة خراسان ما بقيت. » فكتب أبو داود إلى أبي مسلم:
« إنّك لم تخرج لمعصية خلفاء الله وأهل بيت نبينا ، فلا تخالفنّ إمامك ولا ترجعنّ إلّا بإذنه. » فوافاه كتابه على تلك الحال، فزاده رعبا وهمّا. وأرسل إلى أبي حميد وأبي مالك فقال لهما:
« إني قد كنت معتزما على المضيّ إلى خراسان ثم رأيت أن أوجّه أبا إسحاق إلى أمير المؤمنين فيأتينى برأيه فإنّه ممّن أثق به » فوجّه، فلمّا قدم أبو إسحاق تلقّاه بنو هاشم بكل ما يحبّ، وقال له أبو جعفر:
« اصرفه عن وجهه، ولك ولاية خراسان. » وأجازه، فرجع أبو إسحاق إلى أبي مسلم فقال له:
« ما أنكرت شيئا، رأيتهم معظّمين لحقّك، يرون لك ما يرون لأنفسهم. »
ثم أشار عليه بأن يرجع إلى أمير المؤمنين فيعتذر إليه ممّا كان منه.
فأجمع أبو مسلم على ذلك، فقال له نيزك:
« قد أجمعت على الرجوع؟ » قال: « نعم. » وتمثّل:
ما للرجال مع القضاء محالة ** ذهب القضاء بحيلة الأقوام
وقال: « أمّا إذا عزمت على هذا، فاحفظ عني واحدة خار الله لك، إذا دخلت عليه فاقتله، ثم بايع لمن شئت، فإنّ الناس لا يخالفونك. » وكتب أبو مسلم إلى أبي جعفر يخبره أنّه ينصرف إليه.
قالوا: فقال أبو أيّوب: فدخلت على أبي جعفر وهو في خباء شعر بالروميّة جالسا على مصلّى بعد العصر، وبين يديه كتاب أبي مسلم، فرمى به إليّ، فقرأته، ثم قال:
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)