لمّا انصرف الرشيد من مكّة فوافى الحيرة في المحرّم سنة سبع وثمانين، أقام في قصر عون العباديّ أيّاما، ثم شخص في السفن حتى نزل العمر الذي بناحية الأنبار، فلمّا كانت ليلة السبت لانسلاخ المحرّم أرسل مسرورا الخادم في جماعة من خواصّه وقال:
« اذهب فأتنى بجعفر وانظر ألّا يحسّ حتى تقيّده أولا ثم تأتينى برأسه. » قال مسرور: فأتيته وعنده أبو زكّار الأعمى المغنّى وهو في لهوه ويغنّيه أبو زكّار:
فلا تبعد فكلّ فتى سيأتي ** عليه الموت يطرق أو يغادى
قال: فقلت له:
« يا با الفضل، الذي جئت له من ذلك قد والله طرقك فأجب أمير المؤمنين. » قال: فرفع يديه، ثم وقع على رجليّ فقبّلهما وقال:
« حتى أدخل فأوصى. » قلت:
« أمّا الدخول فلا سبيل إليه، ولكن أوص بما شئت. » فتقدّم في وصيّته بما أراد، وأعتق مماليكه. ثم أتتنى رسل أمير المؤمنين يستحثّنى به. قال: فمضيت به إليه فأعلمته فقال لي وهو في فراشه:
« ائتني برأسه. » قال: فمضيت به إليه. فلمّا عرف أنّه مقتول، قال:
« الله الله يا با هاشم، والله ما أمرك بما أمرك به إلّا وهو سكران فدافع بالأمر حتى أصبح، فإنّه سيندم ويؤاخذك بي. » فقلت: « لا أجسر على ذلك. » قال: « فوامره فيّ ثانية. » فعدت لأوامره، فلمّا سمع حسّى قال:
« يا ماصّ بظر أمّه، ائتني برأس جعفر. » فعدت إلى جعفر، فقال:
« عاوده ثالثة. » فعدت فحذفنى بعمود ثم قال:
« نفيت من المهديّ، لئن لم تأتنى برأسه لأرسلنّ إليك من يأتينى برأسك أولا. » قال: فخرجت، فأتيته برأسه.
الإحاطة بيحيى بن خالد وسائر البرامكة
وأمر الرشيد في تلك الليلة بتوجيه من أحاط بيحيى بن خالد وجميع ولده ومواليه ومن كان منه بسبيل، فلم يفلت منهم أحد، وأخذ ما وجد لهم من مال وضياع ومتاع وغير ذلك، ومنع أهل العسكر أن يخرج منهم خارج إلى مدينة السلام أو إلى غيرها. ووجّه من ليلته قوما إلى الرقّه في قبض أموالهم. وكتب إلى جميع البلدان وإلى العمّال بها في قبض أموالهم وأخذ وكلائهم.
فتحدّث السنديّ بن شاهك قال: إني لجالس يوما فإذا أنا بخادم قد قدم على البريد ودفع إليّ كتابا صغيرا ففضضته فإذا كتاب الرشيد بخطّه فيه:
« بسم الله الرحمن الرحيم، يا سنديّ، إذا نظرت في كتابي فإن كنت قاعدا فقم، وإن كنت قائما فلا تقعد حتى تصير إليّ. » قال السنديّ: فدعوت بدوابّى ومضيت وكان الرشيد بالعمر، فحدّثني العبّاس بن الفضل بن الربيع قال: جلس الرشيد في الزوّ بالفرات ينتظرك حتى ارتفعت غبرة، فقال لي:
« يا عبّاسيّ، ينبغي أن يكون هذا السنديّ وأصحابه. » فقلت: « ما أشبهه أن يكون يا أمير المؤمنين. » قال: « فطلعت. » فقال السنديّ: فنزلت ووقفت، فأرسل إليّ الرشيد:
« ادن. » فصرت إليه، ووقفت ساعة بين يديه، فقال لمن كان عنده من الخدم:
« قوموا. » فقاموا، فلم يبق إلّا العبّاس بن الفضل وأنا. فمكث ساعة ثم قال للعبّاس: « اخرج ومر برفع التخاتج المطروحة على الزوّ. » ففعل ذلك. فقال لي: « ادن مني. » فدنوت منه، فقال: « تدرى فيم أرسلت إليك؟ » قلت: « لا والله يا أمير المؤمنين. » قال: « في أمر لو علم به زرّ قميصي رميت به في الفرات، يا سنديّ، من أوثق قوّادى عندي؟ » قلت: « هرثمة. » قال: « صدقت، فمن أوثق خدمي عندي؟ » قلت: « مسرور الخادم الكبير. » قال: « صدقت، امض من ساعتك هذه، وجدّ في سيرك حتى توافى مدينة السلام، فاجمع ثقات أصحابك وأرباعك، ومرهم أن يكونوا على أهبة، فإذا انقطعت الرجل فصر إلى دور البرامكة فوكّل بكلّ باب من أبوابهم صاحب ربع ومره أن يمنع من يدخل ويخرج إلّا باب محمّد بن خالد حتى يأتيك رأيي. » قال: ولم يكن قد حرّك البرامكة في ذلك الوقت.
قال السنديّ: فجئت أركض حتى أتيت مدينة السلام، فجمعت أصحابي وفعلت ما أمرنى به، فلم ألبث أن قدم عليّ هرثمة بن أعين ومعه جعفر بن يحيى على بغل أكّاف مضروب العنق، وإذا كتاب أمير المؤمنين يأمرنى أن أشطره باثنين وأن أصلبه على ثلاثة جسور. ففعلت ذلك ولم يزل مصلوبا حتى أراد الرشيد الخروج إلى خراسان، فمضيت فنظرت إليه، فلمّا مرّبه الرشيد التفت إليّ فقال: « ينبغي أن تحرق هذا - يعنى جعفرا. » فلمّا مضى الرشيد أحرقه.
فمن غريب ما سمع من أمره
إنّ بعض الكتّاب قال: كنت أنظر في ديوان النفقات وما يخرج من الخزائن، فانتهيت يوما إلى ورقة، فيها:
« وفي هذا اليوم أخرج إلى الأمير أبي الفضل جعفر بن يحيى أدام الله كرامته ما أمر أمير المؤمنين، بإخراجه إليه من الورق كذا، ومن العين كذا، ومن الفرش كذا، ومن الكسوة والطيب كذا، حتى بلغ ما مقداره ثلاثون ألف ألف درهم. » ثم تصفّحت الأوراق، فانتهيت إلى ورقة فيها:
« وفي هذا اليوم أخرج في ثمن البواري والنفط الذي أحرق به جعفر بن يحيى أربعة دراهم ونصف وربع. » وقال سلّام: لمّا دخلت على يحيى في ذلك الوقت وقد هتكت الستور وجمع المتاع قال لي:
« يا با سلمة، هكذا تقوم القيامة. » قال سلّام: فحدّثت بذلك الرشيد بعد ما انصرفت إليه، فأطرق وبقي مفكّرا.
ووجدت في بعض الكتب: أنّ البرامكة قصدت عبد الله بن مالك الخزاعي بالعداوة، وكان الرشيد حسن الرأي فيه، وكانوا يغرونه به حتى قالوا:
« لا بدّ من نكبته. » فقال: « ما كنت لأنكبه ولكني أبعده عنكم. » فقالوا: « ينفى؟ » قال: « لا، ولكني أوّليه ولاية دون قدره عندي وأخرجه إليها. » فرضوا بذلك، وكتبوا له على حرّان والرها فقط، وأمروه عن الخليفة بالخروج، قال عبد الله: فودّعتهم واحدا واحدا حتى إذا صرت إلى جعفر لأودّعه قال:
« ما على الأرض عربيّ أنبل منك يا با العبّاس، يغضب عليك الخليفة فيولّيك. » قلت: « فما ذنبي حتى غضب، وأيّ شيء جزاء ذنبي الذي ترضى أن يعمل بي؟ » فاستشاط من قولي ثم قال:
« ينبغي أن يضرب وسطك وتصلب نصفا في جانب ونصفا في جانب آخر. » فنهضت من عنده مغضبا، وأقبلت أتردد في أمري، إلّا أنّى لم أجد بدّا من الخروج، فقطعت طريقي بالهمّ والغمّ لأنّى كنت لا آمنهم مع غيبتي عليّ بالسعاية بي. فبينا أنا عشية على باب الدار التي كنت نزلتها، جالسا على كرسيّ، إذ أقبل إليّ مولى لي، فقال لي سرّا:
« قد قتل جعفر بن يحيى البرمكيّ. » فتوهّمت أنّه قد دسّه إليّ جعفر ليجد عليّ حجّة بكلام ينكبنى بها، فبطحته وضربته ثلاثمائة مقرعة، وحبسته بليلة طويلة على سطح دارى. فلمّا كان في السحر، إذا صوت حلق الحديد، فارتعت ونزلت عن السطح وقلت في نفسي:
إن هجم عليّ صاحب البريد فهي نكبة عظيمة وإن ترجّل واستأذن ففرح. فلمّا بصر بي صاحب البريد، ترجّل فطابت نفسي، ودفع إليّ كتابا من الرشيد يخبرني فيه بقتله البرامكة وقبضه عليهم، ويأمرنى بالشخوص إليه. فشخصت، فلمّا وصلت عاملني من الإنعام والإكرام ما زاد على أمنيّتى.
وخرجت، فأتيت الجسر، فوجدت جعفرا قد ضرب وسطه، نصفه من جانب والنصف الآخر من جانب آخر، فأكثرت حمد الله وعجبت من الصنع اللطيف ورجوع الكيد عليه.
قال أيّوب بن هارون بن سليمان: كنت أميل إلى يحيى وأنزل معه، فكنت معه تلك العشيّة، فلمّا كان في السحر وافانا خبر مقتل جعفر وزوال أمرهم، قال: فكتبت إلى يحيى أعزّيه، فكتب إليّ:
« أنا بقضاء الله راض، وبالخيار منه عالم، ولا يؤاخذ الله العباد إلّا بذنوبهم وما ربّك بظلّام للعبيد. » وأكثرت الشعراء في مراثيهم وأطالت.
وفي هذه السنة غضب الرشيد على عبد الملك بن صالح وحبسه
ذكر السبب في ذلك
كان لعبد الملك بن صالح ابن يقال له عبد الرحمن من رجال البأس له لسان على فأفأة فيه وكان كاتبه قمامة يصادقه فجرت بينهما وبين أبيه وحشة، فواطأ الكاتب قمامة، فسعيا به إلى الرشيد وقالا له:
« إنّه يطلب الخلافة ويطمع فيها. » فذكر أنّه دخل على الرشيد فقال له:
« أكفرا للنعمة وجحودا لجليل المنّة والتكرمة؟ » فقال: « يا أمير المؤمنين، لقد بؤت إذا بالندم، وتعرّضت لاستحلال النقم، وما ذاك إلّا بغى حاسد نافسني فيك مودّة القرابة وتقديم الولاية. إنّك يا أمير المؤمنين خليفة رسول الله ، في أمّته، وأمينه على عترته لك عليها فرض الطاعة وأداء النصيحة، ولها عليك العدل في حكمها والتثبّت في حادثها والغفران لذنوبها. » فقال له الرشيد:
« أتضع لي من لسانك وترفع لي من جناحك؟ هذا كاتبك قمامة يخبر عنك بغلّك وفساد نيّتك، فاسمع كلامه. » فقال عبد الملك:
« أعطاك ما ليس في عقده، ولعلّه لا يقدر أن يعضهنى ولا يبهتني بما لا يعرفه مني » فأحضر قمامة، فقال له الرشيد:
« تكلّم غير هائب ولا خائف. » قال: « نعم يا أمير المؤمنين، إنّه عازم على الغدر بك والخلاف عليك. » فقال عبد الملك:
« أهو كذلك يا قمامة؟ » قال قمامة: « نعم، لقد أردت ختل أمير المؤمنين. »
فقال عبد الملك:
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 2 (0 من الأعضاء و 2 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)