بدء الخلاف بين الأمين والمأمون

وفي هذه السنة كان بدأ الخلاف بين الأمين والمأمون وعزم كلّ واحد منهما بالخلاف على صاحبه فيما كان والدهما هارون أخذ عليهم العمل به في الكتاب الذي ذكرناه أنّه كان كتب بينهما.
ذكر السبب الذي أوجب اختلافهما

كان الرشيد جدّد حين شخص إلى خراسان البيعة للمأمون على القوّاد الذين معه وأشهد من معه من القوّاد وسائر الناس غيرهم أنّ جميع من معه من القوّاد والجند مضمومون إلى المأمون وأنّ جميع ما معه من مال وسلاح وآلة وغير ذلك للمأمون. فلمّا بلغ محمدا الأمين أنّ أباه قد اشتدّت علّته وأنّه لمآبه، بعث من يأتيه بخبره في كلّ يوم وأرسل بكر بن المعتمر وكتب معه كتبا وجعلها في قوائم صناديق منقورة وألبسها جلود البقر وقال:
« لا يظهرنّ أمير المؤمنين ولا أحد ممّن في عسكره على شيء من أمرك وما توجّهت فيه ولا على ما معك ولو قتلت، حتى يموت أمير المؤمنين، فإذا مات فادفع إلى كلّ إنسان منهم كتابه. » فلمّا قدم بكر بن المعتمر طوس بلغ هارون قدومه فدعا به فسأله:
« ما أقدمك؟ » قال: « بعثني محمد لأعلم له علم خبرك وآتيه به. » قال: « فهل معك كتاب؟ » قال: « لا. »
فأمر بما معه، ففتّش فلم يصيبوا معه شيئا. فتهدّده بالضرب فلم يقرّ بشيء، فأمر به فحبس وقيّد. فلمّا كان في الليلة التي مات فيها هارون أمر الفضل بن الربيع أن يصير إلى محبس بكر بن المعتمر فيقرّره، فإن أقرّ وإلّا ضرب عنقه، فصار إليه يقرّره فلم يقرّ بشيء. ثم غشى على هارون فصاح النساء فأمسك الفضل عن قتله وصار إلى هارون ليحضره، ثم أفاق وهو ضعيف قد شغل عن بكر وعن غيره لحسّ الموت، ثم غشى عليه غشية ظنّوا أنّها هي، وارتفعت الصيحة فأرسل بكر بن المعتمر برقعة منه إلى الفضل بن الربيع يسأله ألّا يعجلوا بأمر، ويعلمه أنّ معه أشياء يحتاجون إلى علمها.
وكان بكر محبوسا عند حسين الخادم.
فلمّا توفّى هارون دعا الفضل ببكر في الوقت والساعة فسأله عمّا عنده فأنكر أن يكون عنده، شيء وخشي على نفسه من أن يكون هارون حيّا، حتى صحّ عنده موت هارون، وأدخله عليه فأخبره أنّ عنده كتبا من أمير المؤمنين محمد وأنّه لا يجوز له إخراجها وهو على حاله من قيوده وحبسه.
فأطلقه الفضل فأتاهم بالكتب في قوائم المطابخ المجلّدة بجلود البقر، فدفع إلى كلّ إنسان منهم كتابه. وكان في تلك الكتب كتاب من محمد بن هارون إلى الحسين الخادم بخطّه يأمره بتخلية سبيل بكر بن المعتمر وإطلاقه، فدفعه إليه، وكتاب إلى المأمون، فاحتبس كتاب المأمون عنده لغيبته بمرو، وأرسلوا إلى صالح بن الرشيد وكان مع أبيه بطوس وكان أكبر من يحضره هارون من ولده، فأتاهم في تلك الساعة فسألهم عن أبيه هارون فأعلموه.
فجزع جزعا شديدا، ثم دفعوا كتاب أخيه الذي جاء به بكر وكان الذين حضروا وفاة هارون هم الذين ولوا غسله وتجهيزه وصلّى عليه ابنه صالح.
ولمّا قرأ الذين وردت عليهم كتب محمد بطوس من القوّاد والجند وأولاد هارون فتشاوروا في اللحاق بمحمد وأحبّوه لأجل أهاليهم ومنازلهم.
وقال الفضل بن الربيع:
« لا أدع ملكا حاضرا لآخر لا ندري ما يكون من أمره. » وأمر الناس الناس بالرحيل.
فوافقهم ذلك وسرّوا به وتركوا العهود التي أخذت عليهم للمأمون.
فانتهى الخبر بذلك من أمرهم إلى المأمون بمرو، فجمع من معه من قوّاد أبيه وكان فيهم عبد الله بن مالك، ويحيى بن معاذ وشبيب بن حميد بن قحطبة والعبّاس بن مسيّب بن زهير وهو على شرطته وأيّوب بن أبي سمير، ومعه من أهل بيته عبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح، وذو الرئاستين عنده من أعظم الناس قدرا فشاورهم.
ذكر آراء أشير بها على المأمون في تلك الحال

فأشار عليهم أكثرهم أن يلحقهم بنفسه في ألفى فارس جريدة، فيردّهم، فعمل على ذلك وسمّى له قوما فدخل عليه ذو الرئاستين فقال له:
« إن فعلت ما أشاروا به عليك جعلك هؤلاء هدية إلى محمد، ولكن الرأي أن تكتب إليهم كتابا، وتوجّه إليهم رسول فتذكّرهم البيعة، وتسألهم الوفاء وتحذّرهم الحنث، وما يلزمهم في ذلك في الدين والدنيا. » وقال: قلت له:
« إنّ كتابك ورسلك تقوم مقامك، فتستبرئ ما عند القوم وتوجّه سهل بن صاعد - وكان على قهرمته - فإنّه يأملك ويرجو أن ينال أمله فلن يألوك نصحا، وتوجّه نوفلا الخادم مولى موسى أمير المؤمنين. »
وكان عاقلا. فكتب كتابا ووجّههما فلحقاهم بنيسابور قد رحلوا ثلاث مراحل. قال سهل بن صاعد: فأوصلت إلى الفضل بن الربيع كتابه فقال:
« إنّما أنا واحد منهم. » قال سهل: فشدّ عليّ عبد الرحمن بن جبلة الأبناوى بالرمح. فأمرّه على جبيني ثم قال لي:
« قل لصاحبك والله لو كنت حاضرا لوضعت الرمح في فيك. هذا جوابي. » قال ذو الرئاستين: فقلت للمأمون:
« أعداء قد استرحت منهم ولكن افهم عني ما أقول لك إنّ هذه الدولة لم تكن قطّ أعزّ منها أيّام المنصور أبي جعفر، فخرج عليهم المقنّع وهو يدّعى الربوبية، وقال بعضهم طلب بدم أبي مسلم، فتضعضع له بخروجه من بخراسان، ثم كفاه الله المؤونة، ثم خرج بعده يوسف البرم، وهو عند بعض المسلمين كافر، فكفاه الله المؤونة، ثم خرج اشادشنس يدعو إلى الكفر، فسار المهدي من الريّ إلى نيسابور، فكفوا المؤونة، ولكن ما أصنع أكثر عليك، أخبرني كيف رأيت الناس حين ورد عليهم خبر رافع. » قال: « رأيتهم اضطربوا اضطرابا شديدا. » قلت: « فكيف بك وأنت نازل في أخوالك وبيعتك في أعناقهم كيف يكون اضطراب أهل بغداد، اصبر فأنا أضمن لك الخلافة. » قال: « قد فعلت وجعلت الأمر إليك فقم به. » قال: فقلت:
« والله لأصدقنّك أنّ عبد الله بن مالك ويحيى بن معاذ ومن سمّينا من الرؤساء إن قاموا لك بالأمر كانوا أنفع لك مني برئاستهم المشهورة، ولما عندهم من القوّة على الحرب. فمن قام بالأمر كنت خادما له حتى يصير إلى محبّتك وترى رأيك فيّ. » قال: « نعم. » فلقيتهم في منازلهم، وذكّرتهم البيعة التي في أعناقهم وما يجب عليهم من الوفاء، فتكرّهه الكلّ وقال بعضهم:
« هذا لا يحلّ، أخرج. » وقال بعضهم:
« من يدخل بين أمير المؤمنين وأخيه؟ » فجئت فأخبرته فقال:
« قم بالأمر. » قال: قلت:
« قد قرأت القرآن وسمعت الأحاديث وتفقّهت في الدين، فالرأي أن تبعث إلى من بالحضرة من الفقهاء فتدعوهم إلى الحقّ والعمل به وإحياء السنّة وتقعد على اللبود وتردّ المظالم. » ففعلنا وبعثنا إلى الفقهاء وأكرمنا القوّاد وأبناء الملوك. فكنّا نقول للتميميّ: