« أمّا بعد فقد بلغني كتابك، وللحقّ برهان يدلّ على نفسه، تثبت به الحجّة على كلّ من صار إلى مفارقته، وكفى غبنا بإضاعة حظّ من حظّ العاقبة لمأمول حظّ من عاجله، وأبين في الغبن إضاعة عاقبة مع التعرّض للنكبة والوقائع. ولى من العلم بمواضع حظّى ما أرجو أن يحسن معه النظر لنفسي، ويضع عني مؤونة استزادتى. » وكتب الرسول الذي توجّه بهذه الكتب إلى بغداد إلى المأمون وذي الرئاستين:
« أمّا بعد، فإني وافيت البلدة وقد أعلن خليطك بتنكيره، وقدّم علما من اعتراضه ومفارقته، وأمسك عمّا يجب ذكره وتوفيته بحضرته، ودفعت كتبك فوجدت أكثر الناس ولاة السرائر وبغاة العلانية، ووجدت المسرفين بالرغبة لا يحوطون غيرها ولا يبالون ما احتملوا فيها والمنازع مختلج الرأي لا يجد دافعا منه عن همّه، ولا داعيا إلى لزوم حجّة في عامّه، والملحّون بأنفسهم يحبّون تمام الحدث ليسلموا من متهدم حدثهم، والقوم على جدّ، فلا تجعلوا للتوانى في أمركم نصيبا والسلام. » فلمّا جاء الخبر إلى المأمون موافقا لسائر ما ورد عليه من الكتب، قد شهد بعضها لبعض، قال لذي الرئاستين:
« أمور قد كان الرأي أخبر عن غيبها. ثم هذه طوالع تخبر عن أواخرها، وكفانا أن نكون مع الحقّ ولعلّ كرها يسوق خيارا. » ثم أشخص طاهر بن الحسين، وضمّ إليه ثقات قوّاده وأجناده، فسار طاهر مغذّا لا يلوى على شيء حتى ورد الريّ، فنزلها ووكّل بأطرافه ووضع مسالحه وبثّ عيونه وطلائعه.
ودخلت سنة خمس وتسعين ومائة

مبادرات من الأمين والمأمون

وفيها عقد الأمين لابنه موسى على جميع ما استخلف عليه، وجعل صاحب أمره عليّ بن عيسى بن ماهان، وأسقط ما كان ضرب باسم أخيه المأمون بخراسان من الدنانير والدراهم في سنة أربع وتسعين، لأنّ المأمون أمر ألّا يثبت فيها اسم محمد، ونهى محمد عن الدعاء على المنابر كلّها في عمله للمأمون والقاسم، وأمر بالدعاء له، ثم من بعده لابنه موسى، وابنه موسى يومئذ طفل صغير وسمّاه: الناطق بالحقّ. وجميع ما فعل من ذلك كان عن رأى الفضل بن الربيع وبكر بن المعتمر. وبلغ المأمون ذلك، فتسمّى بإمام المؤمنين، وكوتب بذلك.
وعقد محمد الأمين لعليّ بن عيسى بن ماهان على كور الجبل كلّها:
نهاوند وهمذان وقم وإصبهان، حربها وخراجها، وضمّ إليه جماعة من القوّاد، وأمر لهم بمائتي ألف دينار، ولولده بخمسين ألف دينار، وأعطاه للجند مالا عظيما، وأمر له من السيوف المحلّاة، بألفي سيف وسبعة ألف ثوب للخلع، وأحضر محمد أهل بيته ومواليه وقوّاده المقصورة بالشمّاسيّة، وصلّى الجمعة ودخل وأجلس ابنه موسى في المحراب ومعه الفضل بن الربيع وجميع من أحضر، فقرئ على جماعتهم كتاب من محمد يعلمهم رأيه فيه، وحقّه عليهم وما سبق له من البيعة مفردا، وما أحدث عبد الله من التسمّى بالإمامة، والدعاء إلى نفسه، وقطع البريد، وقطع ذكره من دور الضرب والطرز، وأنّ ذلك ليس له، وحثّهم على الطاعة والتمسّك ببيعته.
وتكلّم سعيد بن الفضل الخطيب قائما، فصدّق ما في الكتاب وتكلّم بمثله. ثم تكلّم الفضل بن الربيع وهو جالس. فأبلغ في القول وأكثر، وذكر أنّه لا حقّ لأحد في الإمامة والخلافة إلّا لأمير المؤمنين محمد الأمين، وقال في آخر كلامه:
« إنّ الأمير موسى بن أمير المؤمنين قد أمر لكم، يا معشر أهل خراسان، من صلب ماله بثلاثة آلاف درهم يقسّم بينكم. » وانصرف الناس.
شخوص علي بن عيسى بن ماهان لحرب المأمون

وفي هذه السنة شخص علي بن عيسى بن ماهان إلى الحرب وتوجّه إلى الريّ. فذكر الفضل بن إسحاق أنّ عليّ بن عيسى توجّه لحرب المأمون يوم الجمعة عشيّا لست بقين من جمادى الآخرة سنة خمس وتسعين إلى معسكره بنهر بين وكان معه زهاء أربعين ألف رجل ومعه قيد فضّة ليقيّد به المأمون بزعمه، وشيّعه أمير المؤمنين محمد الأمين إلى النهروان، فعرض الجند وأقام يومه بالنهروان، ثم انصرف إلى مدينة السلام. وأقام عليّ بن عيسى بالنهروان ثلاثة أيام، ثم شخص واعد السير حتى نزل همذان وكان كاتب من كان بها وبغيرها بالانضمام إلى عليّ بن عيسى. ثم عقد لعبد الله بن جبلة الأبناوي وهو الذي طعن رسول المأمون يوم أنفذه خلف الفضل بن الربيع إلى نيسابور، وتكلّم ما كتبناه على الدينور، وأمره بالمسير في أصحابه ووجّه معه ألفي ألف درهم إلى عليّ بن عيسى سوى ثلاثة آلاف درهم حملت إليه قبل ذلك، فسار عليّ بن عيسى من همذان إلى الريّ قبل ورد عبد الرحمن بن جبلة عليه، فسار على تعبئة، ولقيه طاهر بن الحسين في أقلّ من أربعة آلاف.
وكان استأمن إلى عليّ بن عيسى من عسكر طاهر ثلاثة أنفس يتقرّبون إليه. فسألهم، من هم ومن أيّ البلدان هم، فأخبره أحدهم أنّه كان من جند أبيه عيسى الذي قتله رافع.
قال: « فأنت من جندي؟ » فأمر به فضرب مائتي سوط واستخفّ بالرجلين وانتهى الخبر إلى أصحاب طاهر فازدادوا جدّا في محاربته ونفورا منه.
وأقبل عليّ بن عيسى في جيشه فامتلأت الصحراء بياضا وصفرة من السلاح والذهب، وجعل على ميمنته الحسين بن عليّ، على ميسرته القاسم بن عيسى بن إدريس.
قال أحمد بن هشام، وكان إذا ذاك على شرطة طاهر: فما لبثا أن هزمونا حتى دخلوا العسكر فخرج إليهم الأتباع والساسة، فهزموهم. فقال طاهر لمّا رأى عسكر عليّ بن عيسى:
« هذا ما لا قبل لنا له، ولكن نجعلها خارجية. » فقصد قصد القلب في سبعمائة رجل من الخوارزمية انتخبهم.
مقتل علي بن عيسى بيميني طاهر

قال أحمد بن هشام: فقلت لطاهر:
« ألا تذكّر عليّ بن عيسى البيعة التي أخذها هو علينا للمأمون، خاصّة معاشر أهل خراسان؟ »
فقال: « بلى. » فعلّقنا ذلك على رمح، وقمت بين الصفّين وقلت:
« الأمان، لا ترمونا ولا نرميكم. » فقال عليّ بن عيسى:
« لك ذلك. » فقلت: « يا عليّ بن عيسى ألا تتّقى الله، أليس هذه نسخة البيعة التي أخذتها أنت خاصّة علينا؟ اتق الله فقد بلغت باب قبرك. » فصاح عليّ بن عيسى