فلمّا كان في جوف الليل بعث إليه محمد يأمره بالركوب إليه، فقال للرسول:
« ما أنا بمغنّ ولا مضحك ولا صاحب خسارة ولا جرى له على يدي مال ولا وليت له ولاية، فلايّ شيء يريدني في هذه الساعة؟ أنصرف، فإذا أصبحت غ*** إليه إن شاء الله. » فانصرف الرسول وأصبح الحسين، فوافى باب الجسر واجتمع إليه الناس، فأمر بإغلاق الباب الذي يخرج منه إلى قصر عبيد الله بن عليّ وباب سوق يحيى. ثم قال:
« يا معشر الأبناء، اسمعوا مني أنّ خلافة الله لا تجاوز بالبطر، ونعمه لا تستصحب بالتجبّر، وأنّ محمدا يريد أن يوقع أديانكم وينكث بيعتكم، وهو صاحب الزواقيل بالأمس، أراد أن ينقل عزّكم، إلى غيركم وبالله لئن طالت به مدّة ليرجعنّ وبال ذلك عليكم. فاقطعوا أثره قبل أن يقطع آثاركم، وضعوا عزّه قبل أن يضع عزّكم، فو الله لا ينصره منكم ناصر إلّا ذلّ ولا يمنعه مانع إلّا قتل، وما لأحد عند الله هوادة ولا راقب على الاستخفاف بعهوده والختر بأيمانه. » ثم أمر الناس بعبور الجسر فعبروا واجتمعت الحربية وأهل الأرباض وتسرّعت إليه خيول محمد فاقتتلوا، وأمر الحسين من كان معه من خواصّ أصحابه بالنزول فنزلوا وصدقوا القتال حتى كشفوهم.
فخلع الحسين محمدا يوم الأحد لإحدى عشرة خلت من رجب سنة ست وتسعين ومائة، وأخذ البيعة لعبد الله المأمون من غد يوم الاثنين إلى الليل وغدا إلى محمد يوم الثلاثاء.
إخراج محمد من قصر الخلد وما جرى على أم جعفر

وقد كان العباس بن موسى الهاشمي قد دخل على محمد، فأخرجه من قصر الخلد إلى قصر أبي جعفر وحبسه هناك، وكذلك فعل بأمّ جعفر.
فأبت أن تخرج فقنّعها بالسوط وسبّها وأغلظ لها في القول، حتى [ أ ] جلست في محفّة وأدخلت مع ابنها، المدينة فلمّا أصبح الناس طلبوا من الحسين الأرزاق وماج الناس بعضهم في بعض فقام محمد بن أبي خالد بباب الشام فقال:
« أيّها الناس والله ما أدري بأيّ سبب تأمّر الحسين بن عليّ علينا وتولّى هذا الأمر دوننا. ما هو بأكبرنا سنّا ولا أكرمنا حسبا ولا أعظمنا غناء وفينا من لا يرضى بالدنيّة ولا ينقاد للمخادعة. وإني أوّل من نقض عهده وأنكر فعله فمن كان رأيه رأيي فليعتزل. » وقام كل رئيس قوم فتكلّم وأنكر خلع محمد وأسره.
وأقبل شيخ كبير على فرس فصاح بالناس:
« اسكتوا. » فسكتوا. فقال:
« أيّها الناس هل تعتدّون على محمد بقطع منه لأرزاقكم؟ » قالوا: « لا. » قال: « فهل قصّر بأحد من رؤسائكم؟ » قالوا: « لا. » قال: « فهل عزل أحدا من قوادكم عن قيادته؟ » قالوا: « لا. » قال: « فما بالكم خذلتموه حتى خلع وأسر؟ أما والله ما قتل قوم خليفتهم إلّا سلّط الله عليهم السيف القاتل والحتف الجارف. انهضوا إلى خليفتكم فادفعوا عنه وقاتلوا من أراد خلعه والفتك به. »
الحربية يناهضون الحسين بن علي ويحررون محمدا من الأسر

ثم نهضت الحربية ونهض معهم عامّة أهل الأرباض في العدّة الحسنة، فقاتلوا الحسين بن عليّ وأصحابه قتالا عظيما شديدا منذ ارتفاع النهار إلى انكسار الشمس، حتى هزموهم وأسروا الحسين بن عليّ. ودخل أسد الحربي على محمد فكسر قيوده وأقعده في مجلس الخلافة. فنظر محمد إلى قوم ليس عليهم لباس الجند ولا عليهم سلاح، فأمرهم حتى أخذوا السلاح من الخزائن قدر حاجتهم وانتهب الغوغاء بذلك السبب سلاحا كثيرا ومتاعا آخر، وأتى بالحسين بن عليّ أسيرا، فلامه محمد ووبّخه وقال:
« ألم أقدّم أباك على الناس وأولّه أعنّة الخيل؟ ألم أملأ يده من الأموال؟
ألم أشرّف أقداركم وأرفعكم على غيركم من القوّاد؟ » قال: « بلى. » قال: « فما استحققت منك أن تخلع طاعتي وتؤلّب الناس عليّ؟ » قال: « خذلان الله يا أمير المؤمنين وأنت أكرم من عفا وصفح وتفضّل. » قال: « فإنّ أمير المؤمنين قد فعل ذلك بك، فعليك بثأر أبيك ومن قتل من أهل بيتك، فقد ولّيتك ذلك. » ثم دعا بخلعة فخلعها عليه وحمله على مراكب وولّاه، وهنّأه الناس. ثم خرج مع نفر من خاصّته ومواليه حتى عبر الجسر ووقف حتى خفّ الناس، ثم قطع الجسر وهرب.
فنادى محمد في الناس فركبوا في طلبه فأدركوه بمسجد كوثر على فرسخ من بغداد في طريق نهر بين فلمّا بصر بالخيل نزل فتحرّم وصلّى ركعتين، ثم حمل عليهم حملات في كلّها يهزمهم ويقتل منهم. ثم عثر به فرسه، فسقط وابتدره الناس طعنا وضربا حتى قتلوه. فقال عليّ بن جبلة الحربي:
ألا قاتل الله الأولى كفروا به ** وفازوا برأس الهرثميّ حسين
لقد أوّدوا منه قناة صليبة ** بشطب يمانيّ ورمح ردين
رجا في خلاف الحقّ عزّا وإمرة ** فألبسه التأميل خفّ حنين
قتل محمد بن يزيد المهلبي

وفي هذه السنة رحل طاهر بن الحسين، حين قدم عليه هرثمة، من حلوان إلى الأهواز، فقتل عامل محمد عليها، وكان عامله محمد بن يزيد بن حاتم المهلّبي.
وكان السبب في ذلك
أنّ محمد بن يزيد المهلّبي جمع جيوشا كبيرة حين توجّه إليه طاهر وأقبل حتى نزل سوق عسكر مكرم وصيّر العمران والماء وراء ظهره. وخاف طاهر أن يعجل إلى أصحابه بجمعهم وسار بتعبئته، فجمع محمد بن يزيد أصحابه وقال:
« ما ترون، أطاول القوم وأماطلهم اللقاء، أم أناجزهم كانت لي أم عليّ؟
فو الله ما أرجع إلى أمير المؤمنين أبدا ولا أنصرف عن الأهواز. » فقالوا: « الرأي أن ترجع إلى الأهواز فتحصّن بها وتغادى طاهرا اللقاء وتراوحه، وتبعث إلى البصرة فتفرض بها الفرض وتستجيش بمن قدرت عليه من قومك. » فقبل ما أشاروا به عليه وتابعه قومه. فرجع إلى سوق الأهواز. فحرص طاهر أن يسبقه إليها قبل أن يتحصّن بها فلم يقدر على ذلك. وسبق محمد بن يزيد إلى المدينة فدخلها وأسند إلى العمران وعبّأ أصحابه ودعا بالأموال فصبّت بين يديه، وقال لأصحابه: « من أراد منكم الجائزة والمنزلة فليعرّفنى أثره. » وقاتل الناس بين يديه حتى ترادّوا ورآهم محمد بن يزيد منهزمين فقال محمد بن يزيد لنفر كانوا معه من مواليه: « ما ترون؟ » قالوا: « في ما ذا؟ » قال: « أرى من معي قد انهزم، ولست آمل رجعتهم ولا آمن خذلان من بقي، وقد عزمت على النزول والقتال حتى يقضى الله ما هو قاض. فمن أراد منكم الانصراف فلينصرف. » فقالوا: « والله ما أنصفناك إذا، أعتقتنا من الرقّ ورفعتنا من الضّعة وأغنيتنا بعد القلّة لننصرك وقت الشدّة ثم نخذلك على هذه الحال؟ بل نتقدّم أمامك ونموت تحت ركابك فلعن الله الدنيا بعدك. » ثم نزلوا فعرقبوا دوابّهم وحملوا على أصحاب طاهر، وكان المتولّى لقتاله قريش بن شبل، فأكثروا فيهم القتل، وانتهى بعض أصحاب قريش إلى محمد بن يزيد فطعنه بالرمح فقتله.
فحكى الهيثم بن عديّ قال: دخل ابن أبي عيينة المهلّبي على طاهر فأنشده قوله:
من آنسته البلاد لم يرم ** منها ومن أوحشته لم يقم
حتى انتهى إلى قوله:
ما ساء ظنّى إلّا لواحدة ** في الصّدر محصورة عن الكلم
فتبسّم طاهر ثم قال:
« أما والله لقد ساءني من ذلك ما ساءك وآلمني منه ما آلمك، ولقد كنت كارها لما كان، غير أنّ الحتف واقع والمنايا نازلة، ولا بدّ من قطع الأواصر والتنكّر للأقارب في تأكيد الخلافة والقيام بحقّ الطاعة. »
قال: فظننّا أنّه يريد محمد بن يزيد [ بن ] حاتم.
وأقام طاهر بالأهواز حتى أنفذ عمّاله إلى كورها، وولّى اليمامة والبحرين وعمان ممّا يلي الأهواز وممّا يلي البصرة، ثم توجّه على طريق البرّ إلى واسط، فجعلت المسالح تقوّض مسلحة مسلحة وعاملا عاملا، كلّما قرب منهم طاهر تركوا أعمالهم وهربوا حتى دخل واسط، ووجّه قائدا من قوّاده يقال له: أحمد بن المهلّب، نحو الكوفة وعليها يومئذ العباس بن موسى الهادي. فلمّا بلغه توجّه خيل طاهر إليه، خلع محمدا وكتب بطاعته وبيعته إلى طاهر. ثم كتب منصور بن المهدي وكان عاملا لمحمد على البصرة إلى طاهر بطاعته. ثم كتب إليه المطّلب بن عبيد الله - وكان بالموصل - بيعته للمأمون وخلعه محمدا، فأقرّهم طاهر على ولاياتهم وأعمالهم وكان طاهر نازلا جرجرايا ولمّا رآها قال:
« نعم موضع العسكر. » وعقد بها جسرا وخندق. فلمّا وردت عليه كتب أهل هذه المدائن بالتسليم سار منها إلى نهر صرصر، وعقد بها جسرا وأخذ أصحاب طاهر المدائن.
فحكى أنّ طاهرا لمّا توجّه إلى المدائن كان فيها خيل كثيرة لمحمد وعليهم البرمكي، قد تحصّن بها والمدد يأتيه في كلّ يوم والصلات والخلع.