« يا إبراهيم أما ترى طيب هذه الليلة وحسن هذا القمر وضوءه في الماء - ونحن حينئذ في شاطئ دجلة - فهل لك في الشرب؟ »
قلت: « شأنك، جعلني الله فداءك. » قال: فدعا برطل فشربه، ثم أمر فسقيت مثله.
قال: فابتدأت أغنّيه من غير أن يسألنى لعلمي بسوء خلقه، فغنّيت ما كنت أعلم أنّه يحبّه فقال لي:
« ما تقول فيمن يضرب عليك؟ » فقلت: « ما أحوجنى إلى ذلك. » فدعا بجارية متقدّمة عنده يقال لها: ضعف، فتطيّرت من اسمها ونحن في تلك الحال التي هو عليها. فلمّا صارت بين يديه قال لها:
« تغنّى. » فغنّت بشعر النابغة الجعدي:
ليب لعمري كان أكثر ناصرا ** وأيسر جرما منك ضرّج بالدّم
قال: فاشتدّ عليه ما غنّت به وتطيّر منه فقال لها:
« غنّى غير هذا. » فغنّت:
أبكى فراقهم عيني فأرّقها ** إنّ التّفرّق للأحباب بكّاء
ما زال بعدو عليهم ريب دهرهم ** حتى تناءوا وريب الدّهر عدّاء
فقال لها:
« لعنك الله، أما تعرفين من الغناء شيئا سوى هذا الفنّ؟ » فقالت: « يا سيّدي ما تغنّيت إلّا بما ظننت أنّك تحبّه، وما أردت ما تكرهه، وما هو إلّا شيء جاءني. » ثم أخذت تغنّى:
أما وربّ الّسكون والحرك ** إنّ المنايا كثيرة الشّرك
ما اختلف الليل والنّهار ولا ** دارت نجوم السّماء في الفلك
إلّا لنقل السّلطان من ملك ** عات بسلطانه إلى ملك
وملك ذي العرش دائم أبدا ** ليس بفان ولا بمشترك
فقال لها:
« قومي، غضب الله عليك ولعنك. » فقامت.
وكان له قدح من بلّور حسن الصنعة، وكان محمد يسمّيه: زبّ رباح، وكان موضوعا بين يديه فقامت الجارية منصرفة، فسحبت عليه رداؤها فكسرته وقالت:
« تعس وانتكس الشيطان. » فقال إبراهيم: فقال لي:
« ويحك يا إبراهيم أما ترى ما جاءت به هذه الجارية، ثم ما كان من كسر القدح؟ والله ما أظنّ أمري إلّا وقد قرب. » فقلت: « يطيل الله بقاءك ويعزّ ملكك ويديم نعمتك ويكبت عدوّك. » فما استتم الكلام حتى سمعنا صوتا عن دجلة:
« قضى الأمر الّذى فيه تستفتيان. » فقال لي:
« يا إبراهيم أما سمعت؟ » قلت: « لا والله ما سمعت شيئا. وقد كنت سمعت. » قال: « تسمّع حسّنا. » قال: فدنوت من الشطّ فلم أر شيئا، ثم عاودنا الحديث فعاد الصوت:
« قضى الأمر الذي فيه تستفتيان. » فوثب من مجلسه ذلك مغتمّا، ثم ركب ورجع إلى موضعه بالمدينة، فما كان بعد هذا إلّا ليلة أو ليلتان، حتى حدث ما حدث من قتله. وفي هذه السنة قتل محمد بن هارون الأمين.
مقتل محمد بن هارون الأمين ذكر ما أشير به على محمد فلم يقبله وما تأدى إليه الأمر

لمّا صار محمد إلى المدينة وقرّ فيها وعلم قوّاده أنّه ليس لهم ولا له فيها عدّة للحصار. وخافوا أن يظفر بهم دخل على محمد حاتم بن الصقر ومحمد بن إبراهيم بن الأغلب الأفريقى وقوّاده فقالوا له:
« قد آلت حالك وحالنا إلى ما ترى، وقد رأينا رأيا نعرضه عليك، فانظر فيه واعتزم عليه، فإنّا نرجو أن يكون صوابا، إن شاء الله. » قال: « وما هو؟ » قالوا: « قد تفرّق جندك عنك وأحاط عدوّك بك من كلّ جانب وقد بقي من خيلك سبعة آلاف فرس من خيارها وجيادها سوى مراكبك، فنرى أن تختار ممّن عرفناه بمحبّتك من الأبناء سبعة آلاف رجل، فتحملهم على هذه الخيل وتخرج ليلا على باب من هذه الأبواب، فإنّ الليل لأهله، فنخرج ولن يثبت لنا أحد وتسير حتى تلحق بالشام والجزيرة فنفرض الفروض ونجبى الخراج وتصير في مملكة واسعة وملك جديد، فيسارع إليك الناس من كلّ أوب وينقطع الجنود في طلبك وإلى ذاك ما قد أحدث الله في مكّر الليل والنهار أمورا. » فقال لهم:
« نعمّا رأيتم. » واعتزم على ذلك وخرج الخبر إلى طاهر، فكتب إلى سليمان بن أبي جعفر والى محمد بن عيسى بن نهيك والى السندي بن شاهك:
« قد بلغني عزيمة محمد وو الله لئن لم تردّوه عن هذا الرأي لا تركت لكم ضيعة إلّا قبضتها، ثم لا تكون لي همّة إلّا نفوسكم. فإنّ هؤلاء الذين يسيرون معه صعاليك لا يخلّفون شيئا يشفقون عليه. فاعملوا على ما رسمته تسلموا، إن شاء الله. » فدخلوا على محمد وقالوا:
« نذكّرك الله في نفسك فإنّ هؤلاء صعاليك، وقد ضاق عليهم الحصار وهم يرون أن لا أمان لهم على أنفسهم وأموالهم عند أخيك وعند طاهر، لما قد انتشر عنهم من مباشرة الحرب والجدّ، فيها ولسنا نأمن إذا برزوا وحصلت في أيديهم أن يأخذوك أسيرا أو يأخذوا رأس عدوّك فيتقرّبوا بك ويجعلوك سبب أمانهم. »
وضربوا له في ذلك الأمثال حتى فزع وغيّر عزمه ورأيه.
وكان أصحابه الذين أشاروا بما أشاروا أولا جلوسا في رواق البيت، فسمعوا جميع ما قاله سليمان وأصحابه، فهمّوا جميعا بقتل سليمان وأصحابه. ثم قالوا:
« حرب من خارج وحرب من داخل. » فأمسكوا.