« اللهم وأصلح الأمير أخا أمير المؤمنين والخليفة من بعد أمير المؤمنين أبا إسحاق ابن الرشيد أمير المؤمنين. » وفي سنة ثماني عشرة ومائتين توفّى المأمون بالبذندون.
وفات المأمون ذكر سبب وفاته

حكى سعيد العلّاف القارئ قال: أرسل إليّ المأمون وهو ببلاد الروم وكان دخلها من طرسوس، فحملت إليه وهو بالبذندون، وكان يستقرينى فدعاني يوما فجئته فوجدته جالسا على شاطئ البذندون وأبو إسحاق المعتصم جالس عن يمينه. فأمرنى فجلست نجوة منه فإذا هو وأبو إسحاق مدلّيان أرجلهما في البذندون. فقال:
« يا سعيد دلّ رجلك في الماء وذقه، هل رأيت قطّ ماء أشدّ بردا ولا أعذب وأصفى صفاء منه؟ » ففعلت وقلت:
« يا أمير المؤمنين ما رأيت مثل هذا قطّ. » قال: « أيّ شيء يطيب أن يؤكل ويشرب هذا الماء عليه؟ » فقلت: « أمير المؤمنين أعلم. » فقال: « رطب الآزاذ. » فبينا هو يقول هذا إذ سمع وقع لجم البريد، فالتفت فإذا بغال البريد على أعجازها حقائب فيها الألطاف، فقال لخادم له:
« اذهب فانظر هل في هذه الألطاف رطب، فإن كان فيها الرطب فانظر فإن كان آزاذا فأت به. » فجاء يسعى بسلّتين فيهما رطب آزاذ كأنّما جنى من النخل تلك الساعة، فأظهر شكر الله عز وجل، وكثر تعجبنا منه، فقال:
« ادن فكل. » فأكل هو وأبو إسحاق وأكلت معهما وشربنا جميعا من ذلك الماء، فما قام منّا أحد إلّا وهو محموم فكانت منيّة المأمون من تلك العلّة ولم يزل المعتصم عليلا حتى دخل العراق ولم أزل عليلا حتى كان قريبا.
ولمّا اشتدّت بالمأمون علّته بعث إلى ابنه العبّاس وهو يظنّ أن لن يأتيه لشدّة مرضه، فأتاه وأقام عند أبيه وقد أوصى قبل ذلك إلى أخيه أبي إسحاق، ثم أعاد الوصيّة بحضرة العبّاس والقضاة والفقهاء والقوّاد.
ولمّا توفّى حمله ابنه العبّاس وأخوه أبو إسحاق إلى طرسوس، فدفناه في دار خاقان خادم الرشيد وصلّى عليه أخوه أبو إسحاق.
فكانت خلافته عشرين سنة وستّة أشهر سوى سنتين، كان دعى له فيهما بمكّة وأخوه الأمين محمد ابن الرشيد محصور ببغداد.
وكان ولد للنصف من شهر ربيع الأوّل سنة سبعين ومائة. وكان ربعة، أبيض، جميلا.
وقيل: كان أسمر تعلوه صفرة، أقنى، أعين، طويل اللحية رقيقها، أشيب بخدّه خال أسود.
من سيرة المأمون

فأمّا سيرته فمشهورة لا تخفى على أحد جوده وعطاؤه وسماحة أخلاقه وحلمه ولكنّا نحكى بعض ذلك:
حكى عن العيشى صاحب إسحاق بن إبراهيم أنّه قال:
كنت مع المأمون بدمشق، وكان قد قلّ المال عنده حتى أضاق وشكا ذلك إلى أبي إسحاق المعتصم، فقال:
« يا أمير المؤمنين كأنّك بالمال قد وافاك بعد جمعة. » قال: وكان حمل إليه ثلاثون ألف ألف من خراج ما كان يتولّاه أبو إسحاق. قال: فلمّا ورد عليه ذلك المال قال المأمون ليحيى بن أكثم:
« اخرج بنا ننظر إلى هذا المال. » قال: فخرجا ووقفا ينظرانه وقد كان هيّئ بأحسن هيأة وحلّيت أباعره وألبست الأحلاس التي وشّيت والجلال المصبّغة وقلّدت العهن وعلّيت البدر بالحرير الصيني الأحمر والأخضر والأصفر، وأبديت رؤوسها. قال:
فنظر المأمون إلى شيء حسن واستكثره وعظم في عينه واستشرفه الناس ينظرون إليه ويعجبون منه فقال المأمون ليحيى:
« يا أبا محمد، ينصرف أصحابنا هؤلاء الذين تراهم الساعة خائبين إلى منازلهم وننصرف نحن بهذه الأموال قد ملكناها دونهم؟ إنّا إذا للئام. » ثم دعا محمد بن يزداذ. فقال:
« وقّع لآل فلان بألف ألف ولآل فلان بمثلها ولآل فلان بمثلثها خمسمائة ألف. » قال: « فو الله إن زال كذلك، حتى فرّق أربعة وعشرين ألف ألف، ورجله في الركاب. » ثم قال:
« ادفع الباقي إلى المعلي بن أيّوب يعط جندنا. » قال العيشى: فجئت حتى قمت نصب عينه وحدّقت نحوه فلم أردّ طرفي عن عينه لا يلحظنى إلّا رآني بتلك الحال فقال:
« يا محمد، وقّع لهذا بخمسين ألف من الستّة الآلاف الألف لا يختلس ناظري. » فلم يأت عليّ ليلتان حتى أخذت المال.
وللمأمون شعر كثير فمن مشهور شعره.
بعثتك مرتادا ففزت بنظرة ** وأغفلتنى حتى أسات بك الظّنّا
فناجيت من أهوى وكنت مباعدا ** فيا ليت شعري عن دنوّك ما أغنى
أرى أثرا منه بعينك بيّنا ** لقد سرقت عيناك من عينه حسنا
فيا ليتنى كنت الرّسول وكنتنى ** فكنت الّذى تقصى وكنت الّذى أدنى
خلافة أبي إسحاق المعتصم

وفي هذه السنة بويع لأبي إسحاق محمد بن هارون الرشيد بالخلافة لاثنتى عشرة ليلة خلت أو بقيت من رجب سنة ثماني عشرة ومائتين. وفيها شغب الناس على المعتصم، وطلبوا العبّاس، ونادوه باسم الخلافة فأرسل أبو إسحاق المعتصم إلى العبّاس فأحضره وبايعه ثم خرج إلى الجند وقال:
« ما هذا الخبّ البارد؟ قد بايعت عمّى وسلّمت الخلافة إليكم. » فسكن الجند.
وفيها أمر المعتصم بهدم ما كان المأمون أمر ببنائه بطوانة وحمل ما كان بها من السلاح والآلة وغير ذلك ممّا قدر على حمله، وإحراق ما لم يقدر على حمله، وأمر بصرف من كان المأمون أسكن ذلك الموضع من الناس إلى بلادهم.
وفيها انصرف المعتصم إلى بغداد ومعه العبّاس بن المأمون، فقدمها يوم السبت مستهلّ شهر رمضان.
توجيه المعتصم عساكر لقتال الخرمية

وفيها دخل جماعة من أهل الجبال كثيرة من همذان وإصبهان وماسبذان ومهرجانفذق وغيرها في دين الخرّمية. ثم تراسلوا وتجمّعوا في أعمال همذان. فوجّه المعتصم إليهم عساكر، فكان آخر عسكر وجّهه مع إسحاق بن إبراهيم بن مصعب وعقد له على الجبال. فشخص إليهم فقاتلوه وهزمهم وقتل هناك ستين ألفا منهم وهرب باقيهم إلى بلاد الروم وكتب بالفتح إلى المعتصم.
ودخلت سنة تسع عشرة ومائتين