« والله لا أفلحت. » وكان الهفتى مربوعا ذا كدنة والمعتصم رجلا معرّقا خفيف اللحم فجعل المعتصم يسبق الهفتيّ في المشي فإذا تقدّمه ولم ير الهفتيّ معه التفت إليه فقال له:
« ما لك لا تمشى؟ » يستعجله.
فلمّا كثر ذلك من أمر المعتصم على الهفتى قال له الهفتيّ مداعبا له:
« أصلحك الله، كنت أرانى أماشى خليفة ولم أكن أرانى أماشى فيجا والله لا أفلحت. » فضحك المعتصم وقال:
« ويلك وهل بقي من الفلاح شيء لم أدركه بعد الخلافة؟ » فقال له الهفتى:
« أتحسب أنّك قد أفلحت الآن؟ إنّما لك من الخلافة الاسم، والله ما يجاوز أمرك أذنيك. وإنّما الخليفة الفضل بن مروان الذي يأمر فينفذ أمره من ساعته. » قال المعتصم:
« وأيّ أمر لي لم ينفذ؟ » فقال: « أمرت لي بكذا وكذا منذ شهرين فما أعطيت ممّا أمرت به منذ ذاك حبّة. » وكان هذا أوّل ما حرّك المعتصم في القبض على الفضل بن مروان.
وكان محمد بن عبد الملك الزيّات يتولّى ما كان أبوه يتولّاه للمأمون من عمل الفساطيط وآلة الجمّازات ويكتب عليها ممّا جرى على يدي محمد بن عبد الملك. وكان يلبس إذا حضر الدار الدرّاعة السوداء والسيف بالحمائل.
فدعاه الفضل يوما وقال له:
« ما هذا الزيّ إنّما أنت تاجر فما لك والسواد والسيف؟ » فترك ذلك محمد. وأخذه الفضل برفع حسابه إلى دليل بن يعقوب النصراني فأحسن دليل إليه ولم يزرأه شيئا. وعرض عليه محمد هدايا فأبى دليل أن يقبل منها شيئا. ثم غضب المعتصم على الفضل بن مروان وأهل بيته وأمرهم برفع ما جرى على أيديهم وصيّر محمد بن عبد الملك مكانه.
فلمّا صار محمد بن عبد الملك وزيرا استدعى الفضل يوما وقد دخل دار السلطان بسواد وسيف وهو إذ ذاك مغضوب عليه يحاسب، فقال:
« ما هذا الزيّ؟ الزم منزلك، فإن احتيج إليك استدعيت. »
ودخلت سنة إحدى وعشرين ومائتين

وقعة كانت بين بغا وبابك

وفي هذه السنة كانت بين بغا الكبير وبابك وقعة بناحية هشتاذ سر فهزم بغا واستبيح عسكره.
ذكر الخبر عن ذلك

كان بغا قدم بالمال الذي مضى ذكره ففرّقه الأفشين على أصحابه وتجهّز بعد النيروز عند زوال البرد ومكروه الثلج، ووجّه بغا في عسكر ليدور حول هشتاذ سر وينزل في خندق محمد بن حميد ويحكمه ويخفره، ووجّه أبا سعيد من وجه آخر ورحل الأفشين من برزند، فتجهّز بغا من غير مواقفة الأفشين وسار حتى نزل قرية البذّ في وسطها وأقام بها يوما واحدا واحتاج إلى الميرة والأعلاف، فوجّه ألف رجل في علّافة له، فخرج عسكر من عساكر بابك فاستباح العلّافة وقتل البعض وأسر البعض ورجع بغا إلى خندق محمد بن حميد شبيها بالمنهزم وكتب إلى الأفشين يعلمه ذلك ويسأله المدد فقال الأفشين:
« ما عمل شيئا وأقدم بغير أمرنا. » ثم وجّه إليه أخاه الفضل بن كاوس وأحمد بن الخليل بن هشام وابن جوشن وصاحب شرطة الحسن وقرابة للفضل بن سهل. ثم كتب الأفشين إلى بغا يعلمه أنّه يغزو بابك في يوم سمّاه له ويأمره أن يغزوه في ذلك اليوم بعينه ليحاربه من كلا الوجهين. فخرج الأفشين في ذلك اليوم يريد بابك وخرج بغا، فعسكر على دعوة فهاجت ريح شديدة ومطر شديد فلم يكن للناس صبر على البرد وشدّة الريح فانصرف بغا إلى عسكره وواقعهم الأفشين من الغد وبغا غير حاضر، فهزمه الأفشين وأخذ عسكره وخيمته، ونزل الأفشين في معسكر بابك.
ثم تجهّز بغا من الغد وصعد هشتاذ سر، فوجد العسكر الذي كان مقيما بإزائه قد انصرف إلى بابك فترك بغا في موضعه وأصاب قماشا وخرثيّا قد تركوه، ثم انحدر من هشتاذ سر يريد البذّ وكان على مقدّمته داود سياه فبعث إليه:
« إنّا قد توسّطنا الموضع الذي تعرفه يعنى الذي كنا فيه في المرّة الاولى وهذا وقت المساء وقد تعب الرجّالة، فانظر جبلا حصينا يسع معسكرنا حتى نعسكر فيه ليلتنا هذه. » فالتمس داود سياه ذلك، فصعد إلى قلّة جبل فأشرف فرأى أعلام الأفشين ومعسكره شبه الخيال فقال:
« هذا موضعنا. » فجاءهم في تلك الليلة سحاب وبرد ومطر وثلج كثير، فلم يقدر أحد حين أصبحوا أن ينزل من الجبل لأخذ ماء ولا سقى دابّة من شدّة البرد وكثرة الثلج وكأنهم كانوا في نهارهم ذلك في ليل من الضباب المتراكم وشدّة الظلمة. فلمّا كان اليوم الثالث قال الناس لبغا:
« قد فنى ما معنا من الزاد وأضرّ بنا البرد فانزل على أية حال كانت، إمّا راجعين وإمّا نحو الكافر. »
تبييت بابك الأفشين

وقد كان في يوم الضباب بيّت بابك الأفشين ونقض عسكره وانهزم الأفشين وانصرف إلى معسكره فضرب بغا بالطبل وانحدر يريد البذّ. فلمّا صار إلى بطن الوادي نظر إلى السماء منجلية والدنيا طيّبة غير رأس الجبل الذي كان عليه. فعبّأ بغا أصحابه ميمنة وميسرة ومقدّمة وتقدّم يريد البذّ وهو لا يشكّ أنّ الأفشين في موضع معسكره فمضى حتى صار لزق جبل البذّ ولم يبق بينه وبين أن يشرف على أبيات البذّ إلّا صعود قدر نصف ميل، وكان على مقدّمته غلام لابن البعيث، وكان ابن البعيث هذا ذا نكاية في بابك وأصحابه وكان للغلام قرابة بالبذّ، فلقيتهم طلائع لبابك، فعرف بعضهم الغلام فقال له:
« فلان؟ » قال: « نعم. » قال: « من هذا هاهنا؟ » فسمّى له من معه من أهل بيته فقال:
« ادن مني حتى أكلّمك. » فدنا منه الغلام فقال له:
« ارجع وقل لمن تعنى به يتنحّى فإنّا قد بيّتنا الأفشين وهزمناه، ونحن قد تهيّأنا لكم في عسكرين، فعجّل الانصراف لعلّك أن تنفلت. »
فرجع الغلام فأخبر صاحبه ابن البعيث، فأخبر ابن البعيث بغا بذلك، فوقف بغا يشاور أصحابه، فقال بعضهم: