فرجع الغلام فأخبره أنّه دخل على أمير المؤمنين. فمكث ساعة ثم دفع إلى ايتاخ وكان سائله أمير المؤمنين عن الكلام الذي قاله الغلام قرابته فأنكر وقال:
« هذا الغلام كان سكران ولم يفهم وما قلت شيئا ممّا ذكر. » وسار المعتصم حتى صار إلى باب مضايق البذندون فأقام أشناس هناك ثلاثة أيّام ينتظر أن تتخلّص عساكر أمير المؤمنين، لأنّه كان على الساقة.
فكتب أحمد بن الخليل رقعة إلى أشناس يعلمه أنّ لأمير المؤمنين عنده نصيحة. فبعث إليه أشناس بأحمد بن الخصيب وأبي سعيد محمد بن يوسف يسألانه عن النصيحة فذكر أنّه لا يخبر بها إلّا أمير المؤمنين. فرجعا فأخبرا أشناس بذلك فقال:
« ارجعا فاحلفا له أنّى حلفت بحياة أمير المؤمنين إن هو لم يخبرني بهذه النصيحة أن أضربه بالسياط حتى يموت. » فرجعا فأخبراه بذلك فأخرج جميع من كان يحفظه وبقي أحمد بن الخصيب وأبو سعيد فأخبرهما بما ألقى إليه عمر الفرغاني من أمر العباس وشرح لهما جميع ما كان عنده من خبر الحارث السمرقندي. فانصرفا إلى أشناس وأخبراه بذلك فبعث أشناس في طلب الحدادين فجاءوا بهم فدفع إليهم حديدا وقال:
« اعملوا لي قيدا مثل قيد أحمد بن الخليل وعجّلوه لي الساعة. » ففعلوا ذلك. فلمّا كان وقت العتمة ذهب حاجب أشناس إلى خيمة الحارث السمرقندي فأخرجه منها وجاء به إلى أشناس فقيّده وأمر الحاجب أن يحمله إلى أمير المؤمنين فحمله إليه. واتفق رحيل أشناس صلاة الغداة فجاء أشناس إلى موضع معسكره فتلقّاه الحارث ومعه رجل من قبل المعتصم وعليه خلع، فقال له أشناس:
« مه؟ » قال: « القيد الذي كان في رجلي [ صار ] في رجل العباس. » وكان المعتصم سأل الحارث عن أمره فأخذ عهده إن صدقه ونصحه أطلقه، ثم أقرّ له بجميع أمره وجميع من بايع العباس من القوّاد، فأطلق المعتصم الحارث وخلع عليه ولم يصدّق على أولئك القوّاد لكثرتهم وكثرة من سمّى منهم. وتحيّر المعتصم فدعا به حين خرج من الدرب فأطلقه ومنّاه وأوهمه أنّه قد صفح عنه وتغدّى معه وصرفه إلى مضربه، ثم دعاه بالليل فنادمه [ على ] الشراب وسقاه حتى أسكره واستحلفه أن لا يكتمه من أمره شيئا. فشرح له قصّته وسمّى له جميع من كان دبّ في أمره فكتبه المعتصم وحفظه، ثم دعا الحارث السمرقندي بعد ذلك فسأله عن الأسباب، فقصّ عليه مثل ما قصّ العباس.
ثم أمر بعد ذلك بتقييد العباس.
ثم قال للحارث:
« قد رضتك على أن تكذب فأجد السبيل إلى سفك دمك فلم تفعل. » ثم دفع العباس إلى الأفشين وتتبّع المعتصم أولئك القوّاد فأخذوا جميعا.
فأمّا أحمد بن الخليل فأمر أن يحمل على بغل بأكاف بلا وطاء ويطرح في الشمس إذا نزل ويطعم في كلّ يوم رغيفا واحدا.
وأمّا عجيف بن عنبسة فدفع مع جماعة من القوّاد إلى ايتاخ ودفع أحمد بن الخليل إلى أشناس وأخذ الشاه بن سهل فأحضره المعتصم والعباس بين يديه، فقال له:
« يا ابن الزانية، أحسنت إليك فلم تشكر. » فقال الشاه:
« ابن الزانية هذا الذي بين يديك - يعنى العباس - لو تركني هذا كنت أنت يا هذا لا تقدر أن تقعد في هذا المجلس وتقول ما تقول. » فأمر به المعتصم فضربت عنقه ودفع عجيف إلى ايتاخ فعلّق عليه حديدا كثيرا وحمله على بغل في محمل بلا وطاء.
وأمّا العباس فكان في يد الأفشين، فلمّا نزل المعتصم منبج وكان العباس جائعا فسأل عن الطعام فقدّم إليه طعام كثير فأكل فلمّا طلب الماء منع وأدرج في مسح فمات.
وأمّا عمر الفرغاني فإنّه لمّا نزل المعتصم بنصيبين في بستان دعا صاحب البستان فقال له:
« احفر بئرا في موضع أومأ إليه. » ثم دعا بعمر وقد تناول أقداحا. فلمّا مثل بين يديه جرّد وضرب بالسياط. فلمّا انتهى حفّار البئر ممّا أمره به أمر المعتصم أن يضرب وجه عمر بالخشب. فلم يزل يضرب حتى سقط أنفه وأسنانه ثم قال:
« جرّوه إلى البئر فاطرحوه فيها. » فلم يتكلّم عمر ولم ينطق بحرف حتى طرح في البئر وطمّت عليه.
وأمّا عجيف فإنّه مات في المحمل بباعيناثا فطرح عند صاحب المسلحة فدفن هناك. وذكر أن عجيفا كان في يد محمد بن إبراهيم بن مصعب فسأله المعتصم عنه فقال:
« يا محمد لم يمت عجيف يا با صالح؟ » قال: « يا سيدي اليوم يموت. » فمات ذلك اليوم. وأمّا التركيّ الذي ضمن للعباس قتل أشناس فإنّه كان كريما على أشناس ينادمه ولا يحجب عنه، فأمر أشناس بحبسه قبله في بيت مظلم وسدّ عليه الباب وكان يلقى إليه كلّ يوم رغيف وكوز ماء. فأتاه ابنه في بعض أيّامه، فكلّمه من وراء الحائط فقال له:
« يا بنيّ لو كنت تقدر على سكّين كنت أقدر أن أتخلّص من موضعي هذا. » فلم يزل ابنه يتلطّف للموكّلين حتى فتح له بمقدار دون الدرهم ضوء فطرح إليه من هناك سكّينا فقتل بها نفسه.
وأمّا أحمد بن الخليل فانّه دفعه أشناس إلى محمد بن سعيد فحفر له بئرا وأطبق عليه وفتح فيها كوّة ليرمى إليه منها الخبز والماء فقال له المعتصم:
« ما حال أحمد بن الخليل؟ » فأخبره بحاله. فقال المعتصم:
« أحسبه قد سمن على هذه الحال. » فنقل إلى غيره فسمّه حتى مات.
وقتل باقى القوّاد إلّا هرثمة بن النصر الختّلى فانّه كان يحمل في الحديد من المراغة لأنّه كان هناك. فتكلّم فيه الأفشين واستوهبه من المعتصم فوهبه له وولّاه البلد الذي يصل إليه الكتاب فيه، فوصل إلى الدينور عند العشاء مقيّدا مغلولا فطرح في خان فوافاه الكتاب في بعض الليل وأصبح هو والى الدينور. وقتل من الأتراك والفراغنة وغيرهم ممّن لم يحفظ اسمه خلق كثير وورد المعتصم سرّ من رأى سالما بأحسن حال.
ودخلت سنة أربع وعشرين ومائتين

وفيها أظهر مازيار بن قارن الخلاف على المعتصم بطبرستان
ذكر السبب في ذلك