وقيل: إنّ مازيار امتنع من ركوب الفيل فحمل على بغل بأكاف، وأمر المعتصم فجمع بينه وبين الأفشين فأقرّ مازيار أنّ الأفشين حمله على العصيان وكاتبه وصوّب له ما فعل، فضرب مازيار أربعمائة سوط وطلب ماء فسقى ومات من ساعته فصلب.
وفيها حبس الأفشين.
حبس الأفشين

ذكر السبب في ذلك

كان الأفشين أيّام حرب بابك ومقامه بأرض الخرّمية لا تأتيه هديّة من أهل أرمينية ولا من غيرهم إلّا وجّه بها إلى أسروشنة فيجتاز ذلك بعبد الله بن طاهر فيكتب عبد الله بخبره إلى المعتصم فيكتب المعتصم بتعرف جميع ما يوجّه به الأفشين من الهدايا إلى أسروشنة، فيفعل عبد الله ذلك.
وكان الأفشين كلّما تهيّأ عنده مال حمله في أوساط أصحابه من الدنانير والهمايين وبقدر طاقتهم كان الرجل يحمل ما بين الألف فما فوقه من الدنانير في وسطه فأخبر عبد الله بذلك فبينا هو كذلك إذ نزل رسل الأفشين مع الهدايا بنيسابور ووجّه إليهم عبد الله بن طاهر فأخذهم وفتّشهم فوجد في أوساطهم همايين فأخذها منهم وقال لهم:
« من أين لكم هذا المال؟ » فقالوا: « هذه هدايا الأفشين وهذه أمواله. » فقال: « كذبتم لو أراد أخي الأفشين أن يرسل بمثل هذه الأموال لكتب إليّ يعلمني ذلك لآمر بحراسته وبدرقته لأنّ هذا مال عظيم وإنّما أنتم لصوص. » وأخذ عبد الله المال وأعطاه الجند قبله وكتب إلى الأفشين بما قال القوم وقال:
« أنا أنكر أن تكون وجّهت بمثل هذا المال إلى أسروشنة ولم تكتب إليّ لأبدرقه، فإن كان المال ليس لك فقد أعطيته الجند مكان المال الذي يوجّه به أمير المؤمنين في كلّ سنة، وإن كان المال لك كما زعم القوم فإذا جاء المال من قبل أمير المؤمنين رددته إليك، وإن يكن غير ذلك فأمير المؤمنين أحقّ بهذا المال. وإنّما دفعته إلى الجند لأنّى أريد أن أغزو الترك. » فكتب إليه الأفشين يعلمه أن ماله ومال أمير المؤمنين واحد ويسأله إطلاق القوم ليمضوا إلى أسروشنة، فأطلقهم عبد الله وكان ذلك سبب الوحشة بين عبد الله وبين الأفشين.
ولمّا تواترت أمثال هذه من الأفشين تغيّر له المعتصم وأحسّ الأفشين بتغير حاله عند المعتصم.
ذكر حيل هم بها الأفشين

فعزم الأفشين على أن يهيّئ أطوافا في قصره ويحتال لأن يشغل المعتصم وقوّاده ثم يأخذ طريق الموصل ويعبر الزاب على تلك الأطواف حتى يصير إلى طريق أرمينية إلى بلاد الخزر مستأمنا، ثم يدور من بلاد الخزر إلى بلاد الترك، ويرجع من بلاد الترك إلى بلاد أسروشنة أو يستميل الخزر على أهل الإسلام.
فكان في تهيئة ذلك فطال عليه الأمر وعسر، فهيّأ سمّا كثيرا وعزم على أن يدعو المعتصم وقوّاده فيسمّهم فإن لم يجبه المعتصم استأذنه في قوّاده فيسمّهم مثل أشناس وايتاخ وبغا وأمثالهم في يوم تشاغل المعتصم، فإذا سمّهم وانصرفوا حمل في أوّل الليل تلك الأطواف والآلة على ظهور الجمال حتى يجيء إلى الزاب فيعبر بأثقاله على الأطواف ويعبّر الدوابّ سباحة وكانت أرمينية ولايته.
وكان الأفشين تنوب قوّاده في دار المعتصم كما تنوب أمثالهم. وكان واجن الأسروشنى قد جرى بينه وبين من يطّلع على سرّ الأفشين حديث، فقال له واجن:
« ما أرى هذا الأمر يتمّ لبعده وكثرة ما ينبغي أن يعدّ له. » فذهب الرجل فحكاه للأفشين. فهمّ الأفشين بقتل واجن وأحسّ واجن بذلك فركب من ساعته التي أحسّ بما أحسّ - وكان ليلا - وأتى دار المعتصم وقد كان نام فصار إلى إيتاخ وقال:
« إنّ لأمير المؤمنين عندي نصيحة. » فقال له إيتاخ:
« أليس كنت هاهنا؟ قد نام أمير المؤمنين. » فقال واجن:
« ليس يمكنني أن أصبر إلى غد. » فدقّ إيتاخ الباب على بعض من يخبر أمير المؤمنين بخبر واجن، فقال المعتصم:
« ليبت عند إيتاخ ثم يباكرنى. » فبات عنده. ولمّا أصبح بكّر به إلى المعتصم فأخبره بجميع ما كان عنده، فدعا المعتصم الأفشين، فجاء الأفشين في سواد، فأمر المعتصم بنزع سواده وحبسه. وكتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر في الاحتيال للحسن بن الأفشين حتى لا يفوته. وكان الحسن قد كثرت كتبه إلى عبد الله بن طاهر في نوح بن أسد يعلمه تحامله عليه وظلمه له في ضياعه.
فكتب عبد الله إلى نوح يعلمه ما كتب به المعتصم في أمره ويأمره بجمع أصحابه والتأهّب له حتى إذا ورد عليه الحسن بن الأفشين استوثق منه وحمله، وكتب عبد الله بن طاهر إلى الحسن بن الأفشين:
« إني قد عزلت نوح بن أسد وولّيتك الناحية. » وكتب إليه بكتاب فيه عزل نوح وولايته، فخرج الحسن في قلّة من أصحابه حتى ورد على نوح وعنده أنّه وال، فأخذه نوح فشدّه وثاقا ووجّهه إلى عبد الله فوجّهه عبد الله إلى المعتصم.
وكان المعتصم بنى حبسا للأفشين شبيها بالمنارة وفي وسطها مقدار مجلسه والرجال ينوبون تحتها كما تدور.
فحكى هارون بن عيسى بن المنصور أنّه شهد المجلس الذي عقده المعتصم في داره لمناظرة الأفشين.
ذكر مناظرات وبخ بها الأفشين واحتجاجاته فيها

أحبّ المعتصم أن يبكّت الأفشين ويناظره ولم يكن بعد في الحبس الشديد. فأخليت الدار إلّا من ولد المنصور وأحضر قوم من الوجوه وحضر أحمد بن أبي دؤاد وإسحاق بن إبراهيم بن مصعب ومحمد بن عبد الملك الزيّات، فأتى بالأفشين وأتى بمازيار والموبذ والمرزبان بن تركش وهو أحد ملوك السغد ورجلين من أهل السغد، وكان المناظر له محمد بن عبد الملك الزيّات.
بين محمد الزيات والأفشين

فدعا محمد بن عبد الملك بالرجلين وعليهما ثياب رثّة. فقال لهما:
« ما شأنكما؟ » فكشفا عن ظهورهما، فإذا هي عارية من اللحم فقال محمد:
« أتعرف هذين الرجلين؟ » فقال: « نعم، هذا مؤذّن وهذا إمام، بنيا بأسروشنه مسجدا فضربت كلّ واحد منهما ألف سوط، وذلك أنّ بيني وبين ملوك السغد عهدا وشرطا أن أترك كلّ قوم على دينهم، فوثب هذان على بيت لهم كان فيه أصنامهم فأخرجا الأصنام واتخذاه مسجدا، فخفت أن ينتقض عليّ أمر تلك البلدان فضربتهما على ذلك لتعدّيهما. » فقال محمد:
« ما كتاب عندك قد زيّنته بالحرير والجوهر والديباج فيه الكفر بالله عز وجل. »
قال: « هذا كتاب ورثته عن أبي، فيه آداب العجم وفيه دين القوم الذي هو اليوم كفر، وكنت أستمتع منه بالأدب وأترك ما سوى ذلك، ووجدته محلّى فلم تضطرني الحاجة إلى أخذ الحلية منه فتركته بحاله، ككتاب كليلة ودمنة وكتاب مزدك في منزلك، وما ظننت هذا يخرج من الإسلام. »
بين الموبذ والأفشين